يواجه معلّمو المدارس اليوم مشكلة مشتركة واحدة: مشكلة ضبط الأولاد في الصّف. يتذمّرون دومًا من صعوبة التعاطي مع أولاد هذا الجيل. ولسان حالهم أنّ معظم أولاد اليوم من دون تربية. وفي هذا ملامة مبطّنة للأهل. قد لا يبالي بعض الأهل، لكن قسمًا كبيرًا منهم في ضياع وحيرة من أمرهم. يتخبّطون ويجاهدون ويقفون أحيانًا عاجزين حيال أولادهم. قد لا نلومهم إذا تابعنا كلّ المواضيع المختصة بالتربية. فالأمر شائك بالفعل وصعب ومحيّر.
التعنيف أم الدلال؟
تُشاهد في كلّ يوم على شاشة التلفزيون برنامجًا اجتماعيًّا عن الأولاد والتربية. تنصت إليه بانتباه تام لأن الموضوع يهمّك. فلديك أولاد وانت بحاجة لمشورة. تستمع اليه وهو يعدّد لك معاناة بعض الأولاد من أبٍ ظالم وقاس وضرّاب وعنيف… يحذّرونك من ضرب أولادك ومن تأثيرات ذلك عليهم. “إنّ تعنيف الأولاد جريمة.” هذا أمر مفروغ منه لا يختلف عليه اثنان. تُقرّر على الفور ألاّ تضرب ولدك أبدًا. بل إن أحدهم أخبرني مرّة أنه لا يجب أن نستخدم كلمة “لا” مع الأولاد، بل أن نتمتّع بالإيجابية ونحوّل الأمور كلّها بطريقة تنتهي بنا إلى أن نقول لهم “نعم.”
تلتقي من ثمّ بأصدقاء لك في المجتمع أنت على معرفة جيّدة بهم، ممن ربّوا أولادهم بمحبة متناهية وأكثروا في دلالهم ولم يمنعوا عنهم أي طلب. عاملوا أولادهم بلطف مطلق. فتجد أولادهم في حال لا تُطاق من الاسترخاء والدلال. يتمرّدون على كلّ الضوابط، يفتقرون إلى الطاعة، يعاملون أهلهم بدون أي احترام ولا تقدير، ويستهترون بكلّ القيم والفضائل… وتحتار: أيّ طريقة تتّبِع مع أولادك؟ أيّ تربية هي الفضلى؟ كيف تُربّيهم؟
طرحنا هذه الأسئلة جميعنا، كأهل مخلصين، لأننا نريد الأفضل لأولادنا. أن نقدّم لهم أحسن تربية وأجود علم وأفضل مستقبل وأروع حياة. لكن ما العمل؟ ونحن لا نريد أن نقهر أولادنا أو نحطّم شخصيّتهم وعنفوانهم. لا نريدهم أن يكرهوننا. كما أننا لا نريدهم مستهترين وغير نافعين. أو بلا أدب أو متهورين. فما الحلّ؟
دور المحبّة والحزم في التربية
الحلّ هو باعتماد المحبّة والحزم معًا. ولكن كيف أكون محبًّا وحازمًا في آن؟
المحبة هي في أن أسهر عليهم وأصرف معهم الوقت وأدلّلهم وأقبلهم وأضمهم. أما الحزم فيعني أن أعتمد الوضوح في ما أريده من أولادي وأن أؤدّبهم كلّما استدعى الأمر ذلك. لكن يجب أن نعرف أن التأديب ليس تعنيفًا. وكلّ تربية من دون تأديب لن تأتي بأيّ نتيجة أبدًا.
وأفضل تجسيد لهذه المعادلة هي الصورة التي نجدها في أبوّة الله لنا. وهو الذي عندما أحبّنا، إنما أحبّنا حتى المنتهى، حتى الموت. بذل نفسه على الصليب لأجلنا. لكنه لا يتهاون مع الخطيّة أبدًا. فهو صاحب مبدأ أن “الذي يزرعه الانسان إيّاه يحصد أيضًا. فمن يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادًا. ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية”. والرّب الذي صنع الجنة صنع جهنّم أيضًا. وهو يرحم كلّ التائبين ويخلّصهم ولكنّه يُهلِك الرافضين. وتتلازم محبته ورحمته مع عدله وبرّه. وكثيرون هم اليوم من يرفضون هذه الصورة: يرفضون فكرة جهنم؛ يظنّون أنّه من يستحيل على الله أن يلقي بأحدهم في النار. لكنه أمر حقيق ولو رفضه الجميع. ليتنا نفهم هذه الصورة جيدًا لأنّها ستساعدنا على فهم التوازن المطلوب في التربية.
المحبة من دون حدود وضوابط ليست إلا خرابًا حتميًا لا مفر منه. وكذلك فإن القسوة الشديدة من دون رحمة تشكّل قهرًا لا يحتمل. وما معادلة التوازن تلك إلا الوصفة الصحيحة المطلوبة للتربية السليمة. فإيّانا أن نبني مبادئنا كردّة فعل على ما نسمعه من حولنا. إيانا والأخذ بكل الآراء من دون مراجعة أو درس. إيّانا والتطرّف غير المتوازن. وليست كل الآراء التي نسمعها سليمة. وأكبر برهان على هذا هو ما وصل اليه الغرب اليوم من نتيجة بعد مرور جيل وأكثر على آراء التربية الحديثة التي جرّدت الأهل من كلّ سلطة. وجاءت النتيجة مأسويّة. فلا أصبح الأولاد أكثر تأديبًا؛ ولا زادت محبّتهم لأهلهم؛ ولا تحسّنت صحّتهم النفسيّة. وبلغ الإخلاص ببعض العلماء والباحثين من المربّين حدًّا اعترفوا معه بفشل هذه النظريّات كلّها. علمًا بأن في كلّ نظرية شيئًا من الصحّة والحقّ، لكن كلّ تطرّف في اتجاه ناحية ما أدى وحسب إلى نتائج الوخيمة. منعوا الأهل من ممارسة صلاحياتهم تحت شعار حماية الأولاد ووقف تعنيفهم. وبات الأولاد يتحكّمون بأهلهم ويهدّدونهم ويشكونَهم إلى السلطات.
التربية صعبة ولكن غير مستحيلة
ونصدقكم في النهاية القول: إنّ من أصعب الأمور تربية الأولاد. ويجب أن نعترف بضعفنا كبشر وبعجزنا. فالبشر يطبّقون النظريّات، ولا يستطيع أحد منهم أن يدّعي، بالمطلق، أنّه الأفضل في التربية. يبقى أن الله هو المرجع الأفضل. “لأن الله يعرف جبلتنا”. وليس أفضل من أن نعود الى كلمة الله ونتبنّى كلّ مبادئها لأنها الأفضل والأسمى وبرهنت على أنّها الأضمن والأصلح والأعدل والأحكم عبر كلّ العصور. ونخطئ كأهل إذا لم نرجع إلى الكتاب المقدس ونربّي أولادنا، منذ الصغر، على احترام كلمة الله.
يبقى أن نفهم ونُقدِّر مبدأ العدالة وهو من أهم المبادئ في التربية. فعلى الولد الذي يفعل الصالح أن يُمدَح ويكافأ. وسيحفّزه هذا على أن يفعل الأمر مجددًا، لأنه يُولّد فيه الشعور بالإنجاز والاعتبار والعنفوان. وعلى الولد أن يُعاقب أيضًا عندما يرتكب الخطأ. وسيمنعه هذا من تكرار الأمر. أمّا إذا مرّ الخطأ من دون أيّ عقاب ومحاسبة فسيؤدّي بالولد حتمًا إلى عدم إقامة أي اعتبار للأمر في المرّة المقبلة ويمنعه من تقدير العواقب.
تربية أولادنا وتأديبهم أمر واجب علينا ومسؤولية لا يجوز التهرّب منها مهما صعبت. ويخبّئ البعض رأسه في الأرض كالنعامة محاولاً تناسي الأمر. وهذا لا ينفع. لأن الربّ يخبرنا في كتابه المقدس أن “أدِّب ابنك لأن فيه رجاء”. فالتأديب إذًا واجب.
توجد أفكار، وطرق وأساليب كثيرة قد تُستخدَم في التأديب. وسنحاول في العدد المقبل أن نقدّم بعض النصائح والأمثلة العمليّة حول كيفية مقاربة أولادنا والتكلّم معهم. كيف نحملهم على الطاعة. وما هي أفضل الوسائل للوصول إلى أفضل النتائج. “من تعوزه حكمة ليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطى له.”