“فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ” (غل 6: 9).
التجارة الشريفة ليست بعار. لكن أن يُحوّل العمل الإنسانيّ إلى تجارة وسمسرة عندها تُفسَد أنبل الأعمال السامية على الإطلاق. طبعًا لا يمكننا أن نتّهم كلّ من يعمل في العمل الخيري بالفساد. التعميم لا يجوز. لكن الحقّ يُقال أنّه ما لم يكن الإنسان العامل في هذا الحقل أمينًا وصاحب ضمير ويخاف الله لسَهُلَ سقوطه في الفساد. وما لم تَضبُط أعمال الجمعيّات هيكليّة إداريّة ونظم حوكمة صالحة لتسلّل الفساد إليها لا محالة. فبالوقت الذي يذخر التاريخ بأشخاص ضحّوا بأموالهم الشخصيّة هناك الكثيرون ممّن يستنفعون من الخدمة الإنسانيّة بالحرام. قليلون يحذون نموذج السامريّ الصالح الذي استخدم ما عنده لخدمة المحتاج.
من المعروف أن دخول العمل الإنسانيّ كان يتطلّب دعوة وقلبًا نحو المعوز والمتألّم، إلاّ أنّه في هذا العصر شاعَ دخول المفلسين والسماسرة واللصوص وغير المثقلين بالهمّ الإنساني إليه. هؤلاء وجدوا في هذا العمل فرصة غنى سهل وسريع. هؤلاء يُحبّون المال ويطلبونه بالخداع والكذب والتمثيل وهم غير مهتمين فعليًّا بالإنسان المتألّم والمحتاج إلّا بقدر ما يؤمّن لهم مادّة إعلانيّة ترويجيّة دسمة يستخدمونها لإثارة شفقة المتبرعين والمانحين. طبعًا لا ينسى هؤلاء في عملهم الدعائيّ تصوير أنفسهم كأصحاب قلوب كبيرة تلبس عباءة البّرّ والإحسان لربح ثقة الناس ولإبعاد الشكّ عنهم.
البحث عن المال والممولين
وفي عصر العولمة تطوّر عمل تُجّار الألم ليصير أكثر من شحادة على الأبواب أو في المناسبات ليصير عمل سمسرة دوليّة حيث أنّهم يحملون مشاريعهم باسم جمعيات وهميّة أو حقيقيّة باحثين عن مصادر تمويل أجنبيّة كبرى. فها هُم يبحثون عن مانحين وسماسرة دوليّين من صنفهم. وهؤلاء موجودون أيضًا. فهناك من تخصّص بجمع الأموال Fundraising ويبحث عمّن يحمل مشروعًا. الواحد يُقنع المتبرعين والثاني يوصل جزء من التبرّع إلى المحتاج لاستكمال الصورة في توزيع الهبة، والوسيطان متواطئان على المانح والمستفيد النهائي ويتقاسمان الأرباح. أمّا المتبرّع فيفرح ببطاقة الشكر التي تُعزّي قلبه أنّه استرضى الله باهتمامه بالمحتاجين، والفقير يفرح بالفتات الذي يسدّ شيء من حاجته.
وهناك الجمعيّات الوهميّة، وهي بالآلاف في لبنان، والتي لا عضويّة حقيقيّة فيها ولا مشاريع فعليّة تقوم بها، وتستفيد من الأموال الحكوميّة والبلديّة لمجرّد تقديم الطلب معتمدة على الدعم السياسيّ أو الحزبيّ أو الطائفيّ لها. وهكذا تصبّ الأموال بجيوب أصحابها دون أن يكون هناك أي مشروع حقيقيّ خيريّ أو إنسانيّ أو تربويّ مزعوم. وهناك مؤسّسات اجتماعيّة مشهورة بمصداقيّتها وبإداراتها لكن هي مخروقة بمسؤولين يعملون لمصالحهم الشخصيّة أكثر ممّا يعملون لحساب المحتاجين.
الفساد المالي
فها مُدير يبيع الملف أو المشروع لأكثر من جهة مانحة. ويقبض من أكثر من جهة للمشروع واحد، ويستفيد من المال المضاعف لحاجياته البيتيّة والشخصية والعائليّة. كأن يطلب مدير فرعي مالاً لشراء فرشًا لمكاتب الجمعية أو المازوت للتدفئة من أكثر من جهة، ويستخدم المال المضاعف ليفرش بيته وليُدفئه وليسكت المتواطئين معه. وهناك موظف يُجيّر لنفسه شِكّات مخصّصة للمعوزين. وهناك من يلغم فواتير الجمعيّة ليربح المال عند شراء الحاجيّات أو الإعاشات. وهناك من يتاجر بعقارات جمعيّته أو عند إدارة ورش بناء مقرّاتها ويربح العمولة عند الشراء وعند البيع. وهناك من يُصرّح للمانحين عن معاشات عالية لموظفيه وهو بالواقع لا يدفعها لهم بالكامل بل يقتطع منها لنفسه. وهناك الذي ابتدأ مستقيمًا ومن ثم فَسُدَ لكثرة المال المهدور الذي أغواه للإستفادة الشخصيّة. ومنهم من كافأ نفسه بأشكال تبدو قانونيّة وهي غير منطقيّة، كأن يزيد معاشه ومكافآته أو يستخدم موارد الجمعيّة وأملاكها وسياراتها على هواه ولأغراضه الشخصيّة. لقد أظهرت مشكلة نازحي الحروب المتنوعة في بلادنا أن مسؤولي الجمعيّات قد اغتنوا بشكل ملفت وبنوا الفيلات والبيوت واشتروا العقارات والسيارات الفاخرة بالأموال المُقدّمة للعمل الإنسانيّ أو الخيريّ…
أين تكمن المشكلة؟
من المؤكّد أن وجود هذه الجمعيّات الوهميّة والفاسدة يعود لعدم وجود قانون عصري للجمعيّات وغياب المراقبة الحكوميّة عليها. إلا أن المراقب لا بدّ أن يطرح الأسئلة التالية: كيف يُقيّم هذا النوع من العمل الإجتماعي؟ هل نقول عنه أنّه يفتقد للأمانة المهنيّة أو أنّه سرقة بحتة تُدار تحت عنوان أخلاقيّ إنسانيّ عريض؟ كيف يتمكّن هؤلاء من الإستمرار بأعمالهم غير الشرعيّة إلى ما لا نهاية؟ هل هو غياب الهيئات العامّة أو الأجهزة الرقابيّة أو مجالس الإدارة الفعليّة حيث مُعظم مجالس الإدارة هي صوريّة وغالبًا ما تتألّف من الأقارب والأصدقاء والوجهاء الّذين تكثر انشغالاتهم أو يخجلون أن يسألوا سؤالاً! من يراقب المسؤول وحركة الأموال والتقدمات والمصاريف في الجمعيّة؟ إن غياب الشفافية والمحاسبة والمساءلة هي سبب أساسيّ في نمو الفساد داخل الجمعيّات. ولفلفة التجاوزات لحفظ سمعة الجمعيّة أو الطائفة وعدم سلوك طريق القضاء لمعاقبة الفاسدين فيها يزيد من احتمال السقوط في الحرام. أمّا غياب مؤسّسات الدولة عن مراقبة الجمعيّات الأهليّة أو الطائفيّة فهو واعز إضافي مُطمئن لاستمرار الفساد فيها.
وأحيانًا نسأل عن سبب الأحجام المضخّمة للكادر الوظيفي والموازنات الكبيرة بالوقت الذي تكون فيه معظم الأعمال وكلفتها محدودة أو لا ضرورة لها (كمثل تخصيص الأموال لمؤتمرات التوعية وتنمية المهارات والترفيه!) ويحتار المرء من ذلك، ليخلص إلى القول أنّه لربما هذه الجمعيّات تُستخدم كغطاء أو كمنصّة لأجندات غريبة عجيبة، قد تتراوح بين تبيض الأموال والسمعة مرورًا بشراء الذمم والولاءات داخل العائلة والطائفة والمجتمع لتصل إلى دخول العمل السياسيّ أو لتكون دعم مُبطّن وغير مباشر لأحزاب ولمرجعيّات سياسيّة… والأخطر هو أن تكون بعض الجمعيّات المدعومة بأموال طائلة من الخارج غطاء لعمل مخابراتي ضدّ البلاد. والملفت أن بعض الجهات يستخدمون العمل الإجتماعي والخيري إمّا لوضع اليد على الطائفة، أو كرشوة دينية لإدخال المعوزين إلى عداد أتباعها. طبعًا نعترف أنّه هناك فرق بين الرشوة الدينيّة ومشاركة العطية مع المحتاج والنابعة من قلب مؤمن رحوم.
الله يرانا
ويتساءل المخلصون المحبّون للعمل الخيريّ من يضبط هذه الجمعيّات وكيف؟ هل بإمكان الدولة أن تقوم بذلك دون أن تنساق إلى قمع الحريّات العامّة؟ أو هل تُحال هذه الجمعيات لرقابة هيئات وطنيّة موثوقة لا يتواطئ مندوبوها بقبض الرشاوى لتغطية فساد ما؟ قد يكون الجواب الأقرب والأجدى هو أن يُقاطع الناس التبرّع لجمعيّات لا يعرفونها ولا يثقون بإداراتها ولا تفتح دفاترها أمامهم للتدقيق فيها. ولئلا تضعف ثقة الناس بالعمل الخيري وتُعدَم الإنسانيّة بين البشر، قد يكون أفضل حلّ هو أن ينخرط المحسنون بالجمعيات المحترمة ويُساندوا أخوتهم المحتاجين مباشرة، ويتوقفوا عن التبرّع لأيّ كان دون أن يُتعبهم ضميرهم أبدًا. وليثقوا أن الله يرى ويُكافِئُهم.