التّغلغل الخفيّ في حياة النّخبة واستغلال أسرارها
التقيت في حياتي بعددٍ من “رجال الدّين” المزيّفين. هؤلاء يلبسون البدلة السّوداء والياقة الدينيّة البيضاء ويخدعون الكثيرين. ما هي هذه الظّاهرة؟ ظاهرة انتحال الصّفة؟ هل هي لأهدافٍ شخصيّةٍ سواء كانت سلطةً، أو مالًا، أو نفوذًا، أو مقامًا اجتماعيًّا؟ أو هي لأجنداتٍ خفيّة؟
المُلفِت أنّ بعض هؤلاء يتمتّعون بحذاقةٍ وذكاءٍ، ويدّعون أنّهم ذوو أهمّية وأنّ لديهم معارف واتّصالات مهمّة فيُبهِرون النّاس بهم. هؤلاء يُحسِنون استخدام الخطاب الدينيّ والإجتماعيّ ويُتقِنون الظّهور بمظهر التّقوى والفضيلة والحكمة والإرشاد والصّلاة حتّى. وبسبب تملّقهم وحنكتهم وخداعهم يتمكّنون من اختراق عالم النّخبة على تنوّعاته.
وهنا أتساءَل: كيف يتمكّن هؤلاء المحتالون من الإيقاع بالنُّخَب فرائس لهم؟ لماذا يُصدّق هؤلاء المتعلّمون والنّافذون منتحلي الصّفة الدّينيّة وينجذبون إليهم؟ هل حاجتهم إلى الشّرعيّة الدّينيّة تجعلهم يسمحون لهؤلاء الوصوليّين أن يكونوا في دائرتهم فيُعزّزون صورتهم في المجتمع؟ هل هو الجهل الدّينيّ وقلّة التّمييز الرّوحيّة أو تبكيت الضّمير ما يجعلهم ينبهرون بكلّ “نبيّ كذّاب”؟
الأخطر في الموضوع هو إذا كان بين هؤلاء المُضلّلين جواسيس محترفين يدسّهم الأعداء في مجتمعنا أو إذا كانوا رجال دين قد جنّدتهم المخابرات لصالحها. اشتهرت أجهزة المخابرات العالميّة، ومنها ال CIA وال KGB، وحتى أجهزة الأمن في ميليشياتنا اللبنانيّة البائدة في تاريخنا المشؤوم، في استخدام عملاء انتحلوا الصّفة الدينيّة، للتجسّس وجمع المعلومات والتّضليل والتّأثير على القرار الّسياسيّ وحتّى الاغتيالات. التّاريخ مليء بقصص “رجال الدّين” الجواسيس المحترفين، وهناك الكثيرون ممّن لم يكتشفهم أحدٌ من النّاس.
إنّ ظاهرة “رجال الدّين المشبوهين” هذه تتطلّب من النُّخَب، بشكلٍ خاصّ، اليقظة والحذر والتّدقيق في مَن يدخل حياتهم وبيوتهم وعائلاتهم ودائرة صداقاتهم ويجمعون المعلومات عنهم ويستغلّون صداقتهم لتغطية أعمالهم المشبوهة. يجب التّدقيق في خلفيّاتهم وحقيقة علومهم ورتبهم الدّينيّة ومراقبة سلوكهم الإجتماعيّ وخاصّة من جهة المال وفِعل الإحسان والمناسبات الإجتماعيّة والدّينيّة الخاصّة والعامّة الّتي يقومون بها. يجب وضع أقوال هؤلاء ووعودهم تحت مجهر الشّكّ والتّحليل والتّبصّر. صحيح أنّ البحث عن هويّة النّاس اليوم صار أسهل بفضل مُحرّكات البحث على شبكة الإنترنت والذّكاء الإصطناعيّ لكنّ البعض منهم، وخاصّةً الجواسيس، يصعب إيجاد معلومات عنهم بسهولة.
أكتب هذه المقالة، إذ وجدت أنّ كثيرين من أصدقائي السّياسيّين وأهل الفكر والدّين قد وقعوا في شباك المحتالين هؤلاء. أعمت مظاهر التّقوى الزّائفة أعينهم. المضحك المبكي هو أنّ بعضهم ظنّوا أنّ عشرتهم لهؤلاء المحتالين ستصل بهم لبناء جسور الصّداقة مع مواقع القرار في العواصم العالميّة الكبرى. وهم على أحسن حال، إن لم يقعوا في حبائل جواسيس، يكونون قد وقعوا في براثن “تُجّار دين”، وحده الله يعرف من يكونون. وقد أوقع بهم هؤلاء ليبيعوا صُورَهم وقصص “اهتدائهم” لمانحين دوليّين يدفعون لهم أتعابهم ويثرونهم.
وبينما كنت أكتب هذه السّطور تذكّرت الرّبّ يسوع وتحذيراته المتكرّرة ضدّ الأنبياء الكذبة. ما يزال صدى صوته قويًّا حتّى اليوم: “اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!” إنهّ عصر رهيب نعيش فيه. فعشيرة “الأنبياء الكذبة” القديمة العهود لم تنقرض. وقد وصلنا إلى أيّام يكثر فيها الدجّالون وقانصو الفرص والجواسيس. حذّر بولس الرسول أيضًا من هؤلاء وقال: “لِأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ، وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالْمَدْحِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ”. إنّ هذه الظّاهرة تدعونا لليقظة والتّمييز لئلّا يخدعنا هؤلاء المحتالون فنصير من ضحاياهم، عندئذٍ نحتقر أنفسنا إذ نكتشف استغلالهم لنا.