ما يشغل بال كلّ إنسان هو كيف سيكون موته وكم سيستغرق خروج روحه؟ وإن كان الاحتضار يأخذ وقتًا إلّا أن خروج الرّوح من الإنسان عند الموت يحدث في لحظةٍ واحدة. فالله يُعطي الرّوح في لحظةٍ وهو ينزعها من الإنسان في لحظةٍ وبغتةٍ وبسرعةٍ كما جاء في سفر أيوب: “يَقْضُونَ أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ. فِي لَحْظَةٍ يَهْبِطُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ”، أو كما يقول آساف في مزموره إنّ أرواح النّاس تخرج بسرعةٍ خاطفة كالحلم الصباحيّ عند التيقّظ.
والواقع يقول أنْ لا سلطان للإنسان على روحه التي تُنزع نزعًا منه. “تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ، وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ.” فعندما يأمر الله ويدعو النّفس تطير نحو خالقها. كما جاء في التّرنيمة الإنجيليّة: “نفسي إلى مُخلّصي، إذ يُفتَحُ البابُ تطير”. صرخ الولد ابن الشونميّة أيّام إيليّا النبيّ: “رأسي رأسي” وغادرت روحه جسده. وهكذا مات في لحظة. ما الّذي أصابه في رأسه، هل هي جلطة أو هل هو انفجار في الرأس أو هل هي آثار ضربة شمس حادّة أو أنّه ارتفاع حادّ لضغط الدّم ضربه في هامته؟ لا نعرف بالتّأكيد، لكن من المعروف أنّه قال مرتين: رأسي رأسي، حيث أصابه سهم الموت، ولفظ روحه وأغمض عينيه ومات.
وهذا ما حدث مع يسوع على الصّليب. فبعد نزاع دام ساعات، “نَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هذَا – نكَسَ رأسَه – وأَسْلَمَ الرُّوحَ.” وهكذا خرجت روح يسوع من جسده وعبرت إلى قدس الأقداس عند الآب. وهذا ما يحدث لحظة الموت حيث يترك الإنسان جسده خلفه ويتغرّب عنه ليذهب إلى مكانٍ آخر. بولس كان واثقًا أنّه يذهب ليستوطن عند الرّبّ إذ آمن به وأخذه مخلّصًا في حياته.
خلع المسكن يرافقه عذابٌ وألمٌ مُعيّن. الألم يحدث بسبب الصّراع مع الجسد. خلايا الجسد تصير تعبة وغير قادرة على مقاومة الموت. هل يستسلم المرء أو يُقاوم؟ فالموت حتميّ ولا يمكن تجنّبه. هل نقدر أن نتقبّل هذه الحقيقة؟ البعض يستغرق وقتًا ليتقبّل حقيقة انهزامه أمام الموت. ولكن في لحظةٍ ما، يعرف أنّ الموت أقوى منه، ولا يقدر أن يقف أمام شبحه. ويكتشف الإنسان أنّ مؤامرة أكبر وأقوى منه تقف في وجهه عند دنو أجله واسمها الموت.
الإنسان بعد خروج روحه منه، لا يعود هنا، ويخسر وجوده الفاعل في دائرة هذه الأرض. “أَمَّا الرَّجُلُ فَيَمُوتُ وَيَبْلَى. الإِنْسَانُ يُسْلِمُ الرُّوحَ، فَأَيْنَ هُوَ؟” وعند خروج روحه منه تهلك أفكاره ومشاريعه وأعماله أيضًا: “تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نَفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ.” يعود الجسد الترابّي إلى التّراب، وتتوقّف جميع نشاطاته، كما صمّم الله له. “بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ”. أخبَر يسوع مَثَل الغنيّ الّذي اهتمّ بأدقّ تفاصيل حياته وبأعماله وبثرواته ولم يتوقّع موته المباغت: “فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟”.
وهكذا تخرج الرّوح ويترك الإنسان كلّ شيء وراءه. يترك بيته وجسده خلفه في الأرض. ويترك كرامته وماله وأملاكه وأشغاله غير المنجزة، ويترك أحبّاءه وعائلته ورفاقه وزملاءه ويعبر وحده إلى أبديّته. جاء في المزامير: “الْحُكَمَاءُ يَمُوتُونَ. كَذلِكَ الْجَاهِلُ وَالْبَلِيدُ يَهْلِكَانِ، وَيَتْرُكَانِ ثَرْوَتَهُمَا لآخَرِينَ… لاَ تَخْشَ إِذَا اسْتَغْنَى إِنْسَانٌ، إِذَا زَادَ مَجْدُ بَيْتِهِ. لأَنَّهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كُلَّهُ لاَ يَأْخُذُ. لاَ يَنْزِلُ وَرَاءَهُ مَجْدُهُ.”
ويبقى السّؤال ضاغطًا في أعماق كلّ إنسان: هل أنا مُستعدٌّ للحظة خروج روحي؟ وحدها مرافقة الرّاعي الصّالح لروح المؤمن لحظة موته هي الّتي تُعزّيه: “أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي.”