تتأرجح بنا الحياة طيلة فترة وجودنا على هذه الأرض فترمينا تارةً في أحضان الحزن وطوراً في ملاذ الفرح. فتتمايل مشاعرنا وتتغيّر كلّما زارت أيامنا محطّة في مشوارها نحو المستقبل. وإذا ما غاب الأمل عن طرقنا، غدونا فريسة اليأس والقنوط في شباك علل الأحزان. وكأنّما أقسى ما يباغتنا شراسة الفراق بالموت.
فإنَّ الموت كما ورد في الكتاب المقدّس هو عدوّ الإنسان منذ الخليقة. وكيف لا وما زلنا نجهل وقت قضائه وبطشه؟! بالإضافة لما يخلّفه في نفوس مـن فقدوا أحبّاءهم من قهر وغضب وحزن. ولا يخفى ما ينتج الحزن من أمراض نفسيّة وجسديّة لمجرّد غياب الأحبّة والإيقان بإستحالة رؤيتهم مجدّداً.
فهل سأنسى نظرات تلك الأمّ المفجوعة المترامية بين أذرع بناتها الثّلاث غير قادرةٍ على الحراك؟! لقد أثكلها خبر موت ابنتها، الطّفلة المجتهدة المحبّة، وألقاها مشلولة الحركة لا تتعزّى. وما انفكّت تناديها “يا روحي” علّها تستيقظ وتجيبها. كم طبعت تلك الزّيارة في نفسي من وجعٍ! فبالأمس كنت أدرّس تلك الفتاة الطّموحة المليئة بالحياة، ولكن لم تكن مع رفاقها لتستقبلنا، بل ناب حضورها ألم فقدانها. فهل من عبارة تعزّي قلباً انفطر وتهشّم؟!
يا لجحود هذا الموت! ويا لفظاعة ما يترك من سواد قاتل! وعبثاً تحاول الكلام. يبقى صوت الأنين من وجع الغياب المباغت. فهل من ألم أعظم من صعق خبر موت أحد أبنائك؟! يا لقباحتك يا موت، كيف أبدلت بيتاً يضجّ بالحياة إلى مكانٍ متّشح بالسّواد حيث يوقظ الواقع المرير صوت البكاء والأنين.
يكفي أن تلاحظ تلك النّظرات التّائهة تتسمّر فجأة بغير هدى، لتلك الأمّ المصدومة. وبين الفينة والفينة تسأل مَن علّمها هل تعرفون أنّي أسميت ابنتي ماغي تيمّناً بإسم النّاظرة؟ ثمّ تجمد لبرهة وتتابع “أنا أحبّكم جميعاً وأنا فخورة بكون بناتي قد تخرّجنَ من مدرستكم! هذا كان حلمي!” ثمّ تعود لصمتها المخيف فتخالها قد تحوّلت إلى جسمٍ بلا حياة، أشبه بتمثالٍ مصنوعٍ من الشّمع. ثمّ فجأة تكمل حديثها الّذي يقطّع أوصال الفؤاد وتقول “الحمد لله أنّ بناتي قد تعلّمن في مدرسة مدام بدره!” وهنا تصمت لتنفجر ببكاء مرير إذ هي تعلم أنّ ابنتها المتفوّقة لن تتمكّن من الدّخول إلى كليّة الصّحّة ولم يعد بإمكانها تحقيق أحلامها. هذا ما آلت إليه حال تلك العائلة بعد نهار الأربعاء في ٢ تشرين الثّاني ٢٠٢٢.
وأمام قتام هذه المأساة، تقف الكلمات حائرة، ويهرب صوتي الّذي يعلم أنّ العزاء يأتي من عند الله فقط، فلا مكان لأيّ عبارة تقال. عندها توجّهت إلى إلهي القادر على كلّ شيء راجية منه إرسال تعزية لتلك الأمّ المسحوقة بحجر أكبر من ذاك الّذي سقط على ابنتها الطّفلة وقتلها. وكم تمنّيت لو أنَّ الله يغمرها بالرّجاء ويشفي قلبها المكسور.
فعلاً، وكما كتب بولس الرّسول في رسالته إلى أهل كورنثوس، “آخر عدوٍّ يُبطَل هو الموت”. فطالما نحن في هذه الأرض سنبقى بحربٍ دائمة مع هذا العدوّ الّذي لا يكفّ عن إشعال النّفس ألماً.