“إمنح يا رب كل امرئ ميتته، ميتة تكون قد ولدت من حياته الخاصة” (راينر ماريا ريلكه)
بداية لم أجد بدًّا من أن استهل مراجعة مؤلّف القسيس د. إدكار طرابلسي الجديد “رحلة الموت من البيت الأرضيّ إلى البيت الأبديّ”، بجملة للشاعر الألماني ريلكه مأخوذة من الكتاب عينه، صفحة 43. وأقول كلمة حقّ مفادها أن هذا الكتاب يُشَكّل نفحة جديدة في عالم التأليف اللاهوتيّ الدينيّ. إنّه كتاب فريد يشبه زوبعة من الألوان الزاهية الممتدة على صفحات الوجدان، ألوان المعرفة المنتشرة مثل كالييدوسكوب ورؤى صافية في آن، منتقاة من أجود ما توصّل إليه الفكر الإنساني المعمّق في دراسة الوحيّ الإلهيّ، وفي معرفة الوجود البشريّ حتى الممات.
ولو أن الكتاب متوسط الحجم 219 صفحة فهو كتاب موسوعيّ شامل، سفر من أسفار المعرفة شامل ومكثف يتناول رحلة الموت في الإيمان المسيحي وفي أديان أخرى ومن جوانب عدة: اللاهوت، الفلسفة، الديانات، التاريخ، الانتروبولوجيا، وحتى الأدب والشعر، وكلّ المعارف.
ذلك أن القسيس د. إدكار طرابلسي يرى إلى مسألة إعداد الكتب وتأليفها أهدافًا تربويّة جمّة إرشاديّة وتعليميّة، وهو الهادف دومًا إلى اعلاء شأن معهده اللاهوتيّ وأيضًا تحديث التعليم والتربية في كلّ المجالات والاختصاصات.
عمد القسيس إلى رفد كتابه بكلّ مفيد في هذا الموضوع الجلل، قضية الموت والرحيل عن الوجود. وأراد من القارئ أن يطالع الكتاب وكأنه يقرأ رواية، رواية ولا كلّ الروايات. رواية الحياة قبل كلّ شيء، فالموت ليس موجودًا في عرف المؤمن الموعود برجاء القيامة، والخلاص مع الرب. وهذا الكتاب يزخر بالشواهد من صلب العقيدة الإيمانيّة المسيحيّة والتي قد لا ينتبه إليها أحد، فيأتي هذا الكتاب ليشرحها ويفسرها ويبيّن صوابيتها.
نتعلم على سبيل المثال من أيوب النبيّ الذي فقد أولاده ولم يتذمّر بل استسلم للرّبّ السيّد المطلق قائلًا: “الرّبّ أعطى والرّبّ أخذ، فليكن اسم الرّبّ مباركًا”. (أيوب 1: 20، 21).
وكذلك نقرأ: “طوبى للأموات الذين يموتون في الرّبّ”. (رؤيا 14: 13).
لم يترك القسيس بابًا من أبواب مسألة الموت والعبور إلى الحياة الأخرى إلّا وعالجه، كما تطرّق إلى عقائد باتت إشكاليّة. ونذكر منها المطهر في كل التعاليم التي تناولته من قبل آباء الكنيسة القدماء والمحدثين، وفي الأدب والشعر معرجًا على الشاعر الإيطالي دانتي اليغييري سنة 1300 الذي ذكر المطهر في كوميديته الإلهية الشهيرة. كما ذكر أيضًا القديسة فيرونيكا جولياني 1700 التي وصفت المطهر وعذابات رجال الدين الخطأة فيه.
لم يدع القسيس إدكار طرابلسي أي مسألة تسقط من حساب هذا الكتاب مهما بدت مرفوضة في هذه الديانة أو تلك، فتطرق إلى مسألة التقمص بحسب الهندوسية والبوذية وغيرها، ليخلص إلى مسألة القيامة والدينونة وعقاب الشياطين والأرواح النجسة والخطأة.
أما اللافت في حفل توقيع هذا الكتاب، فهو أن القسيس نجح في جمع المسيحيّين والمسلمين، ورجال الدين المسيحيّين من مختلف المذاهب والطوائف المسيحية في لقاء جامع بامتياز، إذ على ما يبدو أن مسألة الانتقال إلى الحياة الأبدية تهم الجميع من دون استثناء وتوحّدهم.
كتاب فريد وشجاع، يشهد على شجاعة مؤلّفه الذي يخبرنا الحقيقة، حقيقة بيع صكوك الغفران من قبل المفوض الدومينيكاني جوهان تيتزل (1465-1569) الذي كان يُسَوّق لصكوك الغفران قائلًا:
“لحظة ترنّ النقود المعدنية في قعر صندوق المال، تخرج الروح من المطهر”.
مُذَكرًا بأبيات تامر الملّاط التي هَجَا بها واصا باشا:
قالوا: قضى واصا وواروه الثرى
فاجبتهم وأنا الخبير بذاته
رنّوا الفلوس على بلاط ضريحه
وأنا الكفيل لكم برد حياته.
الحياة الأخرى مع الرّبّ لا تُشرى بمال أرضيّ، بل ننالها بالإيمان من مُخلّص العالم نفسه.
هذا الكتاب هو أحد الأعمال الكبرى، إعادة اعتبار للموت وللحياة على حد سواء، مصالحة مع الرب كما هي مصالحة مع الذات. جسر عبور إلى المكان الأعلى الذي نصبو إليه بكل حواسنا وقوانا لحظة الظفر مع الله وفي قلبه الأبدي.