الوفاء وقود الحبّ. ومَن عاش قصّة حبٍّ يعلم أهميّة تحصين عالم حبّه بالإخلاص. فبمقدار ما تعلو أسوار الولاء للشّريك كذلك يصمد الحبّ بين الطّرفين. ورُبَّ سائلٍ، كيف أكون وفيًّا؟
ففي حصن الإخلاص، يقدِّم المحِبّ حبيبه في الكرامة. بمعنى آخر، كلٌّ يعرف قيمة رفيق دربه. فالاحترام يضمن استمراريّة الحبّ، ولكن متى غاب، تخمد المشاعر وتنطفئ.
أذكر “جورجينا”، شابّةٌ جميلة خَلقًا وخُلُقًا، تعلّمَت في مدرسةٍ من أفضل المدارس، ثمّ تابعت دراساتها العليا في أفضل الجامعات، حيث تخرّجت بامتياز وحازت على إعجاب كلّ أساتذتـها. حلمت بيوم زفافها من “روميو”، شابٌّ مهذّب ومجتهد وطموح. وبالفعل، أتى نهار العرس وكانت مناسبةً متّسمةً بالفرح والبهجة، إذ اجتمع قلبان متيّمان ليكوِّنا عائلةً مفعمةً بالحبّ. وفي الـمُقابل، وعلى المقلب الثّاني من مكان الاحتفال، نُظِّمَ عُرس “سُهيلة” و”جميل”، وهما شابّان مفعمان بالحياة ومتفاهمان، كانا قد التقيا بفضل صديقٍ مشترك، ومن أوّل نظرةٍ تمّ الإعجاب وأصبحا أسيرين في مملكة الحبّ.
ولكن لم تمضِ أيّامٌ قليلة إلّا أن بدأ بُرج الحبّ ينهار، “جورجينا” تتظاهر بالفرح والتّفاهم ولكنَّها منزوعة الجناحين من الدّاخل، وبالتّساوي، كان “روميو” ينكسر داخليًّا ولكن ما لاحظ عليه أحد إذ إنّه كان صاحب ملامح جدّيّة على الدّوام.
يا للعجب، كيف تبدّلت أحوال هذين البَيتَين! فلم يدرك “روميو” يومًا أنّه يهمل زوجته “جورجينا” أمام الرّفقة والأقارب. وكان كلّما التقى برفاقه، ينسى تقديم زوجته لهم ويسترسل بالثّرثرة والقهقهة معهم غافِلاً إكرامها. ما كان من جورجينا إلّا أن تجاريهم في مزاحهم وتقوم بإقحام نفسها بينهم لاسترداد جزءٍ منها قد ضاع من جرّاء تجاهل زوجها لها. وما زاد الشّرخ اتِّساعًا، حالة النّكران الّتي كانت تسود تفكير “روميو” كُلّما حاولت “جورجينا” مطالبته بإعطائها “قيمة” بين الأصحاب، فكان يُنكر إهماله ويتّهمها بأنّها شديدة الحسّاسيّة. ثمّ يعلو صوتهما بالصُّراخ والاتّهامات اللّامتناهية. ولم تستطع السنوات الأربعة من تغيير “روميو” أو تضميد جراح “جورجينا” بل ولّدت في قلبها بركانًا استفاقت حممه يوم دوّى بُكاء ابنتها صارخة: “أخرجيني من هذا المنزل، تعالي نهرب إلى بيت خالتي”. وهكذا تركتا المنزل بدون رجعة.
كذلك كانت المشاكل في بيت “جميل” و”سُهيلة” تتوالى، ولكن في الاتّجاه المعاكس. حيث استرسلت الزّوجة بالازدراء بزوجها أمام أقاربها كلّما اجتمعوا عائليًّا، حاسبةً أنَّ هكذا معاملة طبيعيّة جدًّا بين الزّوجين. فرسمت صورةً ضعيفةً وهزيلةً لزوجها في عيون مَن عرفهم. وتوالت سبع سنوات بدون أن تقتنع “سُهيلة” بتحسين صورة زوجها. بل على العكس، فكلّما اجتمعت بذويها، كانت تُعيد عبارات زوجها “جميل” هاذرةً وهي تقوم بتمثيل المشهد أمامهم. وزد على ذلك، أنّها اعتبرت نفسها السّيّدة القويّة مردّدةً “زوجي خاتم بإصبعي.” ولم تخجل. ونتيجةً لذلك، قرّر “جميل” الانفصال، تاركًا في أوراق المحكمة سبب طلاقه: “أمسيتُ معها بلا قيمة، فكيف سأكون مِثالاً لطفلي إلى حين يصبح رَجُلاً يعي معنى الاحترام الـمُتبادَل؟”
جاء على لسان بني قورح في القديم: “وَالإِنْسَانُ فِي كَرَامَةٍ لاَ يَبِيتُ. يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ.”
نخلص إلى أنّ الوفاء يحمل في ثناياه صون كرامة مَن نُحِبّ. فمِن دون كرامة يفقد الانسان رغبته في الحياة.