يخطر على بالنا في معظم الأحيان أنّ الّذين مِن حولنا لن يستطيعوا التّخلّي عن وجودنا في حياتهم. إلّا أنَّ هذا التّفكير لا يلبث طويلًا حتّى يثبت لنا العكس، فتضمحلّ آمالنا وتسكن مكانها الخيبة، تاركةً وراءها نفسًا جريحةً.
صحيح أنّ الانسان لا يمكنه العيش وحيدًا إنّما لا يقدر أن يحفظ له مكانة في نفس مَن حوله إذا لم يُشِد الآخرون له هذه الإقامة في دائرة حياتهم اليوميّة. بعبارةٍ أخرى، لا يستطع الإنسان فرض وجوده، بل يجب أن يجد مكانته مُجهّزةً لقبوله وسط الرّفقة. لا سيّما وأنّ محاولة البقاء بإصرار، ضمن مجموعة ترفض انضمامه لهم، يخلق المشاكل والإهانة للطّرفين.
لذلك فعندما تظهر علامات اللّامبالاة مِن قِبَل مَن يتواجد بينهم، أو يُهمَل الشّخص فلا يُدعى للمشاركة بنشاطات المجموعة، يجدر به الرّحيل تفاديًا للخلافات.
وبينما يُلملم كسر نفسه المصدومة سيعلم أنّه لم يكن يومًا يعتلي تلك الأهميّة وسط مَن انوهمَ أنّه جزء لا يتجزّأ من مجتمعهم وجمعاتهم. لا بل أمسى من الواضح أنّه كان يُشكّل عبئًا ما أُزيل ثقله إلاّ يوم ابتعد دون رجعة.
فأين أضحت تلك اللقاءات المحبيّة الّتي ما زاولت مخيّلته تغذيتها وهماً؟
قد تلاشت.
وما كشفتها سوى تلك المسافة الّتي أخرجته ليرى بوضوح. وعلاوةً على ذلك، يجب أن يرى من منظارٍ يحمل له الصّورة الكبرى لما يجول من حوله، عندها فقط يمكنه اختيار الّذين يعلمون أنّ لوجوده قيمة في حياتهم. ولا بُدَّ أن ينضمّ إلى مقصورة الحّبّ الّتي تجمعه بمَن يسأل عن غيابه ويُثني على قدومه ويَشعُر بفقدانه ويحتار عند حزنه وما انفكّ يبوح له بمدى احتياجه لوجوده بجانبه.
فما بالك بذلك الخال “خليل” الّذي أمضى وقته، منصرفًا عن الاهتمام بأولاده أحيانًا، وهو يحاول الاطمئنان عن أولاد أخته. فتارةً كان يتّصل بهم هاتفيًّا للاطمئنان وطورًا يهرع لتلبية احتياجاتهم. وللأسف، كان بالمقابل لا يحظَ بردّ كإعادة الاتّصال به أو شكره عربونًا لما قدّمه من خدمة.
وما قاده إلى الشّعور بالإحباط، يوم رجوعهم من سفرة دامت سنتين، فلم يسألوا عن خالهم المريض الّذي رغم مرضه كان يتّصل بهم للاطمئنان طوال سفرهم. وفي نهاية الأمر، تجلّت أمامه الحقيقة ففهِم أنّ مكانته لم تكن يومًا بموجودة.
زد على ذلك، الشّعور بالألم حين اكتشف كم انْتُقِص قَدْرُه. كما ورد في سفر المزامير “وَالإِنْسَانُ فِي كَرَامَةٍ لاَ يَبِيتُ. يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ.” (مزمور 49: 12) ولدرء ذلك الخطر يجب الاحتماء بالحكمة للتّمكّن من عدم الانجرار وراء الخصام طلبًا باسترداد المسلوب المنسوج بخيطان الأوهام. كما فعل خليل حين قرّر عدم معاتبة أولاد أخته وفضّل الانسحاب بهدوء. لكيلا يبيت نظير من يُصارِع الرّياح.
فالإنسان ما فَتِئَ يتغذّى من منهل القيمة الذّاتيّة الّتي يهبها له مَن رافقوه، فإذا انعدمت، تشوّه الفكر وتسرّب المرض إلى النفس، فلا سلامة بعد لتلك الشّخصيّة.
غير أنّ احْتِرامُ المَرْء لذاتِه يفرض عليه الحفاظ على قدرٍ من الكرامة الذّاتيّة لتعزيز شُعورِهِ بالشَّرَف والقيمة الشَّخصيَّة كيما يستطيع المضيّ قدمًا في حياته. إذ الانسان كائن مجبول بالمشاعر الّتي تتحرّك ضمن جهاز هرموني متناغم مع الجهاز العصبي الّذي يديره العقل، وهذا يؤدّي إلى خلق مجموعة من الحسّاسات ما دامت تؤثّر في تشكيل هويّته البشريّة.
فبناء عليه يجب على الانسان الالتزام بحدود تحفظه سالمًا من خطر التّخبّط مع محيطه منتبهًا لما حثّ عليه بولس الرّسول المؤمنين “وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ.” (رومية 12: 10).