يتميّز المؤمنون الحقيقيّون بالمسيح بنفسيّة السّائح الّذي يتحمّل مشقّة السّفر ليتمتّع برؤية مدينة أحلامه. هؤلاء يعرفون أنّ كلّ ما في الأرض فانٍ، وأنّ الحياة تمرّ بسرعة، فهم بشكل دائم ينتظرون “وقت الإقلاع” والخروج من الأرض. وإن كانت رهبة الموت تُلقي بظلالها على من يفتكر بلحظة خروجه من هذا العالم، إلا أنّ أنوار المدينة السماويّة تُلقي في روحه سلامًا عميقًا وسعادة طيّبة ومُشجّعة.
يحكي جون بنيان، في كتابه “سياحة المسيحيّ” مُتخذًا لنفسه فيه اسم “المسيحيّ”، عن رحلته الشخصيّة من “مدينة الهلاك” إلى “المدينة السماويّة”. ويذكر محطات عديدة مرّ بها على الطّريق الطّويل في رحلة الإيمان والبحث عن الحقّ في متعرّجات الحياة. في الكتاب لحظتان مؤثّرتان جدًّا: الأولى عندما وصل إلى تلّة الجلجثة فنظر إلى صليب يسوع واختبر الخلاص من حمله الّذي أثقل ظهره، والثانية عندما عبر نهر الموت ووصل إلى ضفّة المدينة السّماويّة. يقول بنيان:
“اقتاد الملائكة السّائحَين (الكاتب ورفيقه الرّاجي) إلى البوّابة الذّهبيّة، وهم يخبرونهما عن مجد “أورشليم السّماويّة”. عندما وصل “المسيحيّ” و”الرّاجي”، أُعطِيا ثيابًا بيضًا، فصار فرحهما عظيمًا، وصارا يسبّحان بصوتٍ عظيم. ولمّا دخلا، رأيا المدينة كلّها تضيء كالشّمس، وكانت شوارعها مرصوفةً بالذّهب. هناك لم يرَيا الأمور الّتي صادفتهما في أثناء رحلتهما، فالحزن والمرض والضّيق والموت لن يكون موجودًا فيما بعد، لأنّ الأمور الأولى قد مضَت والآن كلّ ما تراه عيناهما نقيّ وطاهر. هناك شاهَدا الملِك بكلّ مجده وبهائه، وصارت كلّ أجراس المدينة تدقّ ابتهاجًا مرحّبة بقدومهما. سلّم كلّ واحد شهادة الخلاص الّتي تسلّمها عند بدء رحلته، ثمّ دخلا كلاهما إلى مقرّهما الأبديّ. هناك سيقضيان الأبديّة يتمتّعان بالسّعادة اللاّمتناهية، وسينالان تعزيةً عن كلّ أتعابهما، وفرحًا عظيمًا عوضًا عن الحزن. سيحظيان برؤية وجه القدّوس نهارًا وليلاً، وسيخدمانه دائمًا بالحمد والهتاف والشّكر لأجل محبّته العظيمة.”
يُعالج جون بنيان بلاهوت إنجيليّ صافٍ ما إن كان هذا سيكون مصير جميع الناس. فأقرّ أن ليس الجميع سيدخلون المدينة السماويّة، وهذا واضح في الإنجيل المقدّس ولا داعي للتعجّب أو للاستغراب. يذكر سفر الرّؤيا أنّ هؤلاء لن يدخلوا المدينة السّماويّة: “لأَنَّ خَارِجًا الْكِلاَبَ وَالسَّحَرَةَ وَالزُّنَاةَ وَالْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ، وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِبًا ” (رؤ 22: 15). والحكيم يسعى ليكون حكيمًا لنفسه ويرى كيف يمكنه أن يضمن دخوله إلى السّماء. وهكذا يُتابع جون بنيان قصّته ويذكر أنّه بعد دخوله المدينة السّماويّة وصل للتوّ خلفه إلى أبوابها شخص آخر، ومُنِع من الدخول:
“بعد فترة وجيزة، وصل شخص آخر إلى باب المدينة السّماويّة، اسمه “الجهل”؛ استطاع أن يعبر النّهر (الموت) بسهولة على عكس “المسيحيّ” ورفيقه. فقد التقى بصاحب مركب يدعى “الرّجاء الباطل”، أخذه في قاربه وعبر به النّهر وأوصله إلى باب المدينة. وإذ لم يكن أحد في استقباله، بدأ يقرع، ظنًّا منه أنّه سيُسمَح له بالدّخول سريعًا. أطلّ رجال من فوق السّور وسألوه عن شهادته، فأخذ يفتّش ولم يجد شيئًا. عندئذٍ، أمر الملك ملائكته بأن يطرحوه في جهنّم.”
وفي تفسيره لهلاك هذا الرجل الملقّب “بالجهل” يرى جون بنيان أنّه كان إنسانًا عاش ومات من دون أن يعرف نعمة الله ورحمته بينما كان يعتقد أنّه قادر أن يُخلّص نفسه باستحقاقاته الشخصيّة، من دون أن يعتمد على المسيح. أمّا “المسيحيّ”، الّذي كان قد قَبِلَ المسيح وسار في طريقه واستعدّ للقائه، فكانت له السّماء في النّهاية.