قلناها مرارًا في مناسبات وكتبناها في مقالات. إنّ الصحافيّ والإعلاميّ وأستاذ المدرسة والقاضي ورجل الدّين ، على وجه الخصوص، يتحمّلون مسؤوليّة كبيرة تجاه الله والمجتمع. فهم يؤثّرون في كلامهم وسلوكهم وأحكامهم وآرائهم على مصائر الناس. إنّهم يُشكّلون المرجع والقدوة وما يقولونه يُبنى عليه ويصبح حكمًا مبرمًا. لذا عليهم أن يقيسوا أقوالهم وتصريحاتهم بالقيراط من أجل تفادي الفتن وإسالة الدماء، خاصّةً في زمن التّلفزيونات والسّوشيال ميديا ذات التّأثير الواسع على ملايين البشر.
والخطر القاتل الّذي يُهدّد المجتمعات في كلّ أنحاء العالم يتمثّل في التّضليل الإعلاميّ الّذي يُمارسه إعلاميّون ومحلّلون ورجال سياسة يعانون من عقد نفسيّة دفينة وخطرة نذكر البعض منها، إذ إنّ استعراضها كلّها يحتاج إلى مجلّدات.
من هذه العقد، عقدة النّرجسيّة، بحيث يعتقد هؤلاء النّجوم أنّهم كالبدور السّاطعة يعرفون ما لا يعرفه أحد سواهم. يظنّون أنّهم يملكون في جعبتهم مفاتيح الأرض والسّماء، بينما هم في الواقع يتكلّمون بمستوى معرفيّ أدنى من الوسط. ويشوب ما يُقدمونه الكثير من الأضاليل والتّفاهات والمرويّات الخياليّة الّتي يطلب منهم مشغّلوهم أن يتلوها. هؤلاء لا هَمّ عندهم إن ضلّلوا المشاهدين وغسلوا أدمغتهم بالكذب والمهاترات والجدليّات العقيمة الهدّامة.
ومن عداد العقد الأخرى الّتي نشاهدها عند هؤلاء الإعلاميّين ونجوم الشّاشات عقدة الحقد وحبّ الانتقام من البشر والخصم السّياسيّ والكيد لكلّ مَن لا يشاطرهم أفكارهم وميولهم. هُم على استعداد لارتكاب كلّ أنواع الجرائم من بثّ الحقد والتّفرقة والتّوتّرات بين النّاس ولو قادت إلى افتعال الفتن والحروب والخراب والدّمار. هؤلاء لا يعبأون بشيء ولا تهمّهم أرواح النّاس. هؤلاء يهمّهم المال الّذي يدخل جيبوهم.
وأهمّ عقدة برأيي هي عقدة انتفاء الضّمير الاجتماعيّ ومحاسبة النّفس (absence de scrupules sociaux). يعني أنّ المجرم المعقّد لا يملك ضميرًا من الأصل ليُعذّبه أو يحاسبه، حاله كحال الّذي يكنس بيته ويرمي الغبار والزّبالة والقاذورات من شرفة منزله على الشّارع أو على شرفة جاره غير عابىء بالنّتائج المؤذية الّتي يمكن أن تترتّب من جرّاء صنيعه هذا.
نعم، إنّها شخصيّات تعاني من أمراض خطيرة جدًّا. نُشاهد هذه العوارض بأمّ العين لدى عدد لا بأس به من المتكلّمين على الشّاشات. وتصل إلى ذروتها لدى الدّاسوس المحرٓض على قتل ابن بلده وأخيه في الإنسانيّة من دون رحمة ولدى الجاسوس الذي يُصوّر وينقل معلومات إلى العدوّ غير مبالٍ بما سيخلّف ذلك من جرائم ومآس وقصف وهدم وضحايا بريئة.
أجل هي عقد قاتلة. وقد تحوّل الفضاء الإعلاميّ إلى “عصفوريّة “كبيرة. ولِمَن لا يعرف معنى كلمة “عصفوريّة” من الجيل الجديد أقول لهم أنّ “العصفورية” هي اسم ناحية من بلدة الحازمية في لبنان حيث بنى المبشّر السويسري فالديماير مستشفى للأمراض النفسيّة والاضطّرابات العقليّة في العام 1896 وأقفلت مع انفجار الحرب المدمّرة في لبنان في بداية السّبعينات من القرن العشرين فقيل صار البلد كلّه عصفوريّة.
مع الأسف العالم كلّه قد تحوّل اليوم إلى ميدان قتال يسيطر عليه قتلة مجانين.