“هوذا أنا أمة الربّ. ليكن لي كقولك” (لوقا 1: 38)
إن التغيير في حياة الإنسان ممكن أن يصير دون أي إنذار مسبق. وقد يكون فريداً لدرجة غير متوقعة. ها صبية يهودية اسمها مريم تتغيّر حياتها فجأة وذلك أكثر جداً مما حَلِمت بينما كانت تكبر في بيت أبيها. يُرسل إليها “جبرائيل الملاك من الله” وكانت بعد مخطوبة. وعادة تحصل في مرحلة الخطوبة تغيّرات نفسيّة وذهنية عميقة في حياة الفتاة تحضيرًا لحياتها الزوجية القادمة. ومن المؤكد، أن مريم لم تفتكر أو تتوقّع يومًا ما أن ملاكًا، لا بل رئيس ملائكة، سيأتي إليها من الله. هذا زائر استثنائي قليلون حظوا في حياتهم برؤيته، ولا شك أنّه في زيارته المفاجئة يحمل بشارة سماوية بتغييرات جوهرية في حياتها.
خوف تُبدّده النعمة
مما قاله لها في تلك الزيارة الخاصة: “سلامٌ لكِ أيّتها المنعم عليها! الرّب معك. مباركة أنت في النساء”. في هذه اللحظات افتكرت: “ما عسى أن تكون هذه التحية!” هنا ابتدأت تحسّ أن شيء ما سيحصل لها. عرفت أن الملاك يأتي إليها لإعلان خاص سيُغيّر مسار حياتها. خافت، فلطالما المفاجآت تُخيف، ولطالما التغيير يُريع. الخوف طبيعي أمام التحولات الأساسية في الحياة. وغالباً ما نقف على مفترق الطرق ونحن نخشى الخيارات الموضوعة أمامنا. الخوف ملازم للذات البشرية الضعيفة. إلا أن الإنسان لا يقدر أن يختبر النقلة النوعية المطلوبة في حياته إن أخذه الخوف. لذا طمأنها الملاك: “لا تخافي، يا مريم، لأنكِ وجدتِ نعمة عند الله”. وحدها نعمة الله تُزيل الخوف وتُرسّخ السلام في القلب البشري المضطرب. ووحدها نعمة الله تُهَيِّئ الإنسان للتغيير الجذري في حياته. وهناك نعمة خاصة جداً لمريم. وهناك نعمة خاصة لكل واحد منا.
التحولات الكبرى تحتاج لنعمة خاصة علوية تأتينا لتعمل فينا ولتغيرنا بحسب مشيئة الله للدور الجديد الموضوع لنا. مريم كانت بحاجة لهذه النعمة، والله أكرمها بها. عندها فهمت ما تضمنته التحية: “سلام لك أيتها المنعم عليها! الرب معك. مباركة أنت في النساء.” فالملاك أعلن لها أنها إناء مختار لانسكاب النعمة الإلهية عليها ولحضور الرب معها. هذا تحول عظيم جعلها آنية متلقية للنعمة الإلهية، وهيكل للحضور الإلهي.
تغييرات غير متوقعة
التغييرات آتية عليها بمعونة إلهية وبنعمة خاصة. لم تكن مريم متروكة لوحدها لتواجه التغييرات التي تفوقها ولا تستطيع مواجهتها منفردة. وعندما بشّرها الملاك بأن ابن الله ومخلّص العالم يولد منها، تساءلت: “كيف يكون هذا وأنا لست اعرف رجلاً؟” وهذا سؤال واقعي وطبيعي مبني على الإقرار باستحالة اختبار الأمومة دون زواج. لكن الأمر الذي ينتظرها غير اعتيادي ولا طبيعي ولا يكنهه فكر إنسان. فهناك شيء مجيد لم تفتكر به يُعدّ لها.
وهنا نرى أن التغييرات الكبرى في حياة الإنسان عندما تأتي من فوق يكون الله قد رتّب لها طرقاً مختلفة عن المعتاد وتتجاوز القواعد الطبيعية المعروفة. هذه هي المعجزة. ولاتمام المعجزة يتدخل الله مباشرة: “الروح القدس يحلُّ عليك، وقوة العليّ تُظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعى ابن الله”.
ان حلول الروح القدس على مريم أمّن لها القوة الإلهية الفاعلة فيها لاتمام تجسّد ابن الله ومجيئه للعالم. أما هي من جهتها فتعامل الله معها وأخذها بيمينها تدريجيّاً من مرحلة إلى أخرى لإتمام التغيير والتحوّل الكبير في حياتها. هنا لم تعد مريم خائفة ولا مشككة ولا ضائعة ولا ضعيفة ولا غير مستعدة، بل تجاوبت وانصاعت واستسلمت، “إذ ليس شيء غير ممكن لدى الله”. وهي تُريد أن تتمّ فيها كل مشيئة الله، وأن تظهر فيها كل إمكانيات الله. عند الله الكثير الكثير وهي لا تُريد أن تحدّ من قدرة الله في حياتها. فقالت مريم: “هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك”. وبهذا التصريح أظهرت مريم استعدادها الكامل لاختبار التغيير في داخلها، وفي واقعها، وفي حياتها، وفي دورها، وفي مستقبلها. مريم تُقدّم المثال النموذجي للمؤمن الذي يُريد اختبار مشيئة الله والذي يسمح لخالقه أن يُجري تغييرات كبرى في حياته.
أسئلة للتأمّل
هل أنا منفتح لاعلان يُغيّر حياتي؟ هل أنا مستعد لتغييرات جذرية في حياتي وموقعي ودوري ومستقبلي؟ لِمَ الخوف والرب يقف معي والروح القدس يمنّ عليّ بما يكفي من نعمه لأصير إناء مستعدًا لكل عمل صالح؟ هل كانت مريم قد اختبرت النعمة لو أنها لم تستسلم لمشيئة الله المعلنة لها؟ هذه أسئلة جالت في فكر مريم ويطرحها كلّ مُخلِص على نفسه. إن وجودنا في صلب مشيئة الله هو الأفضل لنا ولمستقبلنا. ووجود مشيئة الله في حياتنا يعمل فرق حقيقي ومجيد فيها وفي دورنا في الأرض. هل هناك أجمل من العبارة: “ها أنا أمة الرّب، ليكن لي كقولك”؟ تضع أمامنا العذراء نموذجاً للتسليم والطاعة من جهة، ونموذجاً لشخص عمِل به الله عظائم.