الوسيط هو الشّخص الّذي يعمل بين طرفين متخاصمين ليُصالِحهما. فهو يُمثّل كلّ فريق لدى الجهة الأخرى. أمّا في الكتاب المقدّس، فالوسيط هو الشّخص الذي يقف بين الله البارّ القدّوس والإنسان الفاسد بخطاياه ليُصالحهما بعد أن باعدت خطايا الإنسان بينه وبين إلهه. يصف النبيّ حالة التّباعد هذه بين الله وبين النّسل البشريّ فيقول: “بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ.” (إش 59: 2).
اعترف أيّوب النبيّ، في القديم، بحالة التّباعد هذه الّتي آلمته، وبحث عمّن يردم الهوّة بين الطّرفين، بين الإنسان الخاطئ والله القدّوس. فلا بدّ للإنسان من العودة إلى خالقه. لكن، من يُصالحه ويضمن له الغفران والرّضى والقبول الإلهيّ؟ فالإنسان لا يقدر، من ذاته، على أن يتقدّم إلى القدّوس السّاكن في نور لا يُدنى منه، والّذي عيناه أطهر من أن تنظرا الشرّ. من يقدر على أن يكون وسيطًا مُصالِحًـا بين الله العليّ والإنسان الدّنيّ؟
تأوّه أيّوب إذ لم يكن من وسيط بشريّ قادرًا أن يُجري وساطة مُصالحة بين الله والنّاس: “لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا.” (أي 9: 33). وكان أيّوب المتألّم يبحث عن شخصٍ يقوم بعملٍ أكمل من عمل النبيّ والكاهن اللّذين كانا، إلى حدٍّ ما، وسيطين بين الله والنّاس. فالنّبيّ كان ينقل كلمة الله إلى الإنسان عن طريق رؤيةٍ أو تعليمٍ أو تحذير، أمّا الكاهن فكان يُصلّي للإنسان أمام الله ويُقدّم عنه الذّبائح ليترفّق الله به. والنّبيّ والكاهن كلاهما، كانا عاجزين عن إتمام المصالحة التّامة بين المخلوق وخالقه.
وفي سؤاله، كان أيّوب يبحث عمّن يقوم بدور الوسيط القادر على أن يضع يدًا بيد الله، وأخرى بيد الإنسان، ويُصالحهما. وكان دور الوسيط يتضمّن ثلاثة أمور: (1) إنهاء النّزاع بين المتخاصمين (هنا أيّوب/الإنسان والله)؛ و(2) تقريب المسافات بينهما؛ و(3) تأسيس علاقةٍ شخصيّةٍ جديدة بينهما.
وأمام عجز البشريّة عن أن تُقدّم وسيطًا يُصالحها مع الله اعترف إشعياء النبيّ بأنّ الله، وحده، من دون سواه، قادرٌ على مصالحة الخطاة وإعادتهم إليه: “فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ.” (إش 59: 16).
وفي العهد الجديد توضّحت الصّورة أكثر إذ أُعلِنَ أنّ المسيح جاء ليُصالح النّاس مع الله. وهو الوحيد القادر على أن يقوم بدور الوسيط من دون أن يُساوم على العدالة (الإلهيّة) كما يعمل الوسطاء عادةً، إذ يطلبون من المتنازعَين أن يُسقط كلّ واحد منهما قدرًا من حقّه، فيُدوّرون الزوايا ويُجرون مصالحات مبنيّة على التنازلات! والمسيح، هناك على الصّليب، دفع الفدية كاملةً عن البشريّة الخاطئة، مُتمِّمًا مقتضيات العدالة الإلهيّة، ورافعًا عن الخطاة صكّ الدّينونة منهيًا العداوة بين الله والنّاس وصانعًا صلحًا وسلامًا بينهم (أف 2: 13-19؛ 2كو 5: 18-19).
وبناء عليه، حدّد الوحي المقدّس بشكلٍ واضحٍ أنّ وساطة يسوع الفريدة وحدها قادرةٌ على أن تُصالحنا مع الله: “لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ.” (1تي 2: 5). لذا لا داعي أن يضيع أحد يبحث عن وسيط يُصالحه مع الله. الوسيط هو يسوع. وهو أعلن لمن يُريد العودة إلى الآب: “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.” (يو 14: 6). فمن أراد أن يستفيد من وساطة يسوع عند الآب عليه أن يأتي إليه بثقةٍ ويطلبها منه بإيمان.