كثيرون ممّن يسمعون هذا السّؤال، يُسارعون إلى الإجابة المباشرة والحاسمة: “لا. الله لا يُقاصص!” فلا يقدر الّذين ترعرعوا على فكرة أنّ “الله محبّة” فقط أن يقبلوا أنّ الله يُعاقِب أحدًا ما. بعضهم قد يقبل فكرة أنّ الله يُقاصص في الأبديّة فقط. بعضهم الآخر يقول إنّ الله يُقاصص على الأرض فقط، أمّا في الأبديّة فهو رحوم لا ديّان! تظهر آراء متنوّعة في الموضوع تحتاج إلى الدّرس المعمّق لكلمة الله للوصول إلى الرّأي السّديد.
أمّا، إن قلنا إنّ الله يُجازي في الأبديّة فقط أو على الأرض فقط، فنسأل ولِمَ لا يُقاصص في الجهتين معًا؟ فهو إمّا يُمارس عدالته أو لا يُمارسها. فإن كان يُقاصِص في الأبديّة، لِما لا يُقاصِص على الأرض؟ الموضوع يتناول جوهر الله وميزاته. فهو مُحِبّ ورحوم ولكن، في الوقت ذاته، هو قدّوس وبارّ وعادل وحقّ، ويتصرّف بموجب هذه الميزات الآن وفي الأبد. ولا يقدر على أن يكون في وقت من الأوقات عكس ميزاته الإلهيّة ويتوقّف عن استخدامها.
أمّا الله فهو الخالق الّذي لا يغيب أبدًا عن المسرح الكونيّ والبشريّ، وهو فاعل في الدّائرتين. وإن كان في الكون هو الضّابط للكلّ، فهو في عالم البشر السيّد وفوق الكلّ. وهو في ممارسته لسيادته وعدله يُجري أحكامه على الأشرار بسبب شرّهم على الأرض، كما في السّماء (رومية 1: 18-32). قد لا يأخذون كلّ عقابهم هنا، ويبقى منه الكثير لما بعد الدّينونة. لكن، لردع الشّرّ ولحماية أرواح النّاس، ولإظهار برّه وللحفاظ على ترتيبات النّعمة العامّة، ولتعزية المظلومين وتحصيل حقوقهم، ولتأديب المؤمنين ولتحسين حالة المجتمع، ولاقتياد الخطاة إلى التّوبة، لهذه الأسباب كلّها يقتصّ الله من الأشرار بسبب شرّهم على الأرض أيضًا (رومية 12: 19). وما حصل في برج بابل، وفي طوفان نوح، وفي حريق سدوم وعمورة، وفي دمار أورشليم، وفي هلاك مصر، وفي موت حنانيّا وسفّيرة، سوى عبرة للعتيدين أن يفجُروا (1بطرس 2: 6). حتّى أنّ الله يؤدّب شعبه وأولاده المؤمنين ليحفظ نفوسهم، فلا يتمادون في شرّهم، وبالتّالي، يتوبون ويتقدّسون ويتصالحون معه (اقرأ عبرانيّين 12: 7-13).
وهل يُلام الأب على تأديبه لأولاده، والقاضي على ممارسة عدله؟ أو يُلاما إن لم يُمارسا هذا العدل؟ نحن نُريد إلهًا محبًّا وصفوحًا، لا يأبه لخطايانا ولا يُحاسب عليها، فنرسم صورة عن إله عجوز عاجز عن أن يُطالب أولاده بعمل البِرّ ولا يستطيع أنّ يُؤدّبهم إن أخطأوا! ويُصرّ بعضهم على التمييز بين مَن يُسمّونه بإله العهد القديم الغضوب، ومَن يظنّون أنّه إله العهد الجديد الغفور، أمّا المسيح فيُنبئ المدينة المقدّسة الّتي أحبّها، أورشليم، بأنّها تُترك خرابًا لرفضها عرض نعمته (لوقا 13: 34-35). ويُسلّم بولس الرّسول مَن نجّس الكنيسة بخطيّته المستمرّة للعقاب إلى أن يتوب (1كورنثوس 5: 5؛ 11: 31). أمّا وإن كان الله لا يُقاصص الآن، فلماذا حمل المسيح عقاب خطايانا على الصّليب هنا على الأرض (1بطرس 2: 23-24؛ 3: 18)؟ وإن كان الله لا يُعاقب فمن أين للكنيسة أن تُمارس التأديب الكنسيّ (2كورنثوس 2: 5-7)، وللدولة أن تحمل السّيف لإحقاق العدل والصّلاح (رومية 13: 1-5)؟ ويبقى أقسى عقاب لِمَن يزدري بدم المسيح وبروح النّعمة، إذ يقول الله: “لِيَ الانتقام، أنا أُجازي، يقول الرّبُّ. وأيضًا: الرّبُّ يَدينُ شعبهُ. مُخيفٌ هو الوقوع في يَدَي الله الحيِّ!” (عبرانيّين 10: 29-31). أمّا مَن أراد أن يحمي نفسه الآن وفي الأبديّة من عقاب الله فيلتجئ إلى رحمته، لينال نعمةً وسلامًا ويختبر محبّة الله من دون أيّ خوف وعذاب للضّمير (رومية 5: 1؛ 8: 1).