كنت طفلةً صغيرةً جدًّا عندما بدأت تعاليم الكتاب المقدّس وكلام السيّد المسيح تنغرس في داخل أحشائي وتملأ كياني. ومن أهمّ تلك التّعاليم كانت الموعظة على الجبل. ثمّ في مرحلةٍ لاحقة، أي على مقاعد الدراسة، بدأت أقوال الأديب جبران خليل جبران تجتذبني بقوّةٍ، ومن بينها تلك المتعلّقة بالحبّ والعمل والعطاء في كتابه النّبي. لا أعلم كيف تكوّنت تلك الخلطة العجيبة في داخلي، لكنّني أعلم أنّني صرت أسيرة تأثيرها من حيث لا أدري، فصارت هويتي وعنواني: الحبّ والعمل والعطاء.
بدأت رحلتي مع العمل منذ يناعة أظافري ، إذ كانت ظروف حياتنا الاجتماعيّة صعبةً وكان من واجبي وأخواتي أن نساعد والدتي في أعمال الخياطة كي تستطيع أن تدفع أقساط مدارسنا وتكاليف معيشتنا. أذكر جيّدًا كيف كنت أنهي فروضي المدرسيّة بسرعة كي أجلس أمام ماكينة الخياطة الصّناعيّة. كان شغفي تحسّس تلك الأقمشة الجميلة بحبّ وفرح وإعطائها نفحة خاصّة نابعة من القلب وتحويلها إلى ألبسةٍ رائعةٍ سيكتسي بها أناس لا أعرفهم. وكيف لا؟ ألم يقل جبران ” وإذا انت عصرت الكرم متبرّمًا ، فسوف يتقاطر تبرّمك في الخمر سمًّا”؟
استمرّت مسيرتي في الحياة على هذا النّحو إلى أن أنهيت دراستي الجامعيّة ودخلت معترك الحياة المهنيّة. هنا نشأت علاقة عشق بيني وبين تلامذتي، وهم طلّاب القسم الفرنسيّ الّذين يتعلّمون الّلغة الإنكليزيّة كلغةٍ ثالثة. بعد مرور شهرٍ من بداية العام الدّراسيّ طُلب إليّ أن أقابل المدير الّذي كان يهابه الجميع. دخلت مكتبه وكان الخوف يعتريني. أمّا سؤاله لي فكان “ماذا فعلت لابني وابنتي؟ للمرّة الأولى أراهما يهتمّان بالّلغة الإنكليزيّة. أنا أهنّئك. لكن أخبريني ما هو هذا السّر؟” أجبته “أحبّ عملي وأحبّ تلامذتي. وهم يبادلونني هذا الحبّ. وهذا يدفعني للعمل أكثر وللعطاء أكثر.”
أكرمني الرّبّ في مسيرتي التربويّة بأن أغدو رئيسة دائرة الّلغة الإنكليزيّة في المدرسة. هناك اتّسعت الحلقة وتسنّى لي أن أفرغ المزيد مما في قلبي من حنوّ وعطف وأسكب كلّ مافي كياني من شغفٍ وإخلاصٍ وتفانٍ لكلّ من يحيط بي. ولم ينس قلبي هذا عائلتي الصّغيرة، أي والديّ وإخوتي، فبتّ أخصّصهم بالجزء الأكبر من هذه الخلطة وأحرص ألّا أرى أيًّا منهم في حالة عوز أو احتياج، متّذكّرة كلام السيّد المسيح في إنجيل لوقا: “أعطوا تعطوا، كيلًا جيّدًا ملبّدًا مهزوزاً فائضًا يعطون في أحضانكم”.
أنا الآن في الستّين من عمري. أعاني من مرض خبيث قيّد حياتي العمليّة ومنعني من التّحرّك بحريّة . لكنّني حين أخلد لسكون باطني عميق، أجد في ثنايا فؤادي، نِعَمًا إلهيّة، فيها كَمًّا من طِيبِ تلك الخلطة الرّائعة ذات “الرّائحة الذكيّة”، رائحة الله. بهذا أفرح وأسعد وأشعر بالسّلام والاكتفاء.