الذّكريات باقة أحداث عاشها الإنسان. هي تشبه قميصًا محاكًا بآلاف القطب، فما أروعها لو حاكها خيّاط ماهر! هكذا، فإنّ أجمل اللّحظات هي الّتي تذخر صفحات مذكّراتنا بعطرٍ طيّب يشعل القلب بالحنين.
فالماضي أمسى مجموعة ذكريات نعيشها في الحاضر. وبالتّالي، الحاضر الّذي نعيشه سيصبح غدًا من الذّكريات. لذلك، فإنّ الأذكياء وحدهم مَن يعيشون أجمل اللّحظات حتّى تنطبع في أذهانهم فتُحفَظ في ملفّ الذّكريات بأبهى صور.
ومثال على ذلك، الأب الّذي يذخر لابنه ذكريات فيؤمِّن له حاضرًا ناجحًا سعيدًا. حيث يكون الأب حاضرًا في عالم ابنه، ويمسي له المعين والسّند في أوقاته الصّعبة، والمصغي لأحاديثه مهما احتوت من سذاجة، والمرشد لخطواته حتّى لا يتعثّر في ضبابيّة هذه الحياة. حيث ينسجم فكرهما فيعرفان بعضهما البعض حتّى من دون كلام أحياناً. كما حصل في القديم، مع دانيال الّذي عرف من دون سواه، يد أبيه السّماوي التي كانت تكتب على حائط الملك بيلشاصر. كما جاء في سفر دانيال: “فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ظَهَرَتْ أَصَابعُ يَدِ إِنْسَانٍ، وَكَتَبَتْ بِإِزَاءِ النِّبْرَاسِ عَلَى مُكَلَّسِ حَائِطِ قَصْرِ الْمَلِكِ، وَالْمَلِكُ يَنْظُرُ طَرَفَ الْيَدِ الْكَاتِبَةِ.”
والانسان لا يستطيع أن يحيا من دون ذكرياته. فهي تشمل هويّته وبيئته ومحيطه، ومن دونها يشعر بالضّياع وعدم التّوازن. وهي مقياسه للعيش في حاضرٍ سليم. فمنها يستمدّ ارتباطه بأرضه. وخير دليل على ذلك، مَن يتعرَّض لفقدان ذاكرته إثر صدمة أو حادثٍ ما، يظلّ خائفًا من كلّ ما يحيط به ولا يستطيع الثّقة بمشاعره إلى حين استرجاع ذاكرته.
بيد أنّه ليس بالضّرورة أن تكون ذكرياتٍ جميلةً لتربطنا بماضينا بل ربّما هي صورٌ أليمةٌ مليئةٌ بالحزن ولكنّها أمست الدّافع لإصلاح الحاضر، وعدم تكرار أخطاء الماضي. وفي بعض الأحيان يلجأ المرء للتّخلّص من كلّ ما يذكّره بتلك الفترة فيمزّق الصّور أو يقوم بمحوها إذا كانت صوراً إلكترونيّة، وهناك من يلجأ إلى حذف حسابه عن الانترنت لتفادي لمح ما يذكّره بالألم.
وهنالك عوامل تحملنا إلى مكان الذّكريات، كالحيّ القديم وجدران المنزل العائليّ ورائحة الزّهور أو الطّعام أو عطرٍ ما. فيحلم الانسان باسترجاع تلك اللّحظات ليختبر نفس المشاعر، ولكن سرعان ما يستفيق من سهوته فينحدر إلى الواقع البارد.
لن أستطيع أن أنسى حالة المراسل الصّحافي الّذي كان ينقل آثار الدّمار الشّامل لمنزل جدّته، وكيف سأنسى تأثّره الشّديد حين كان يقول هذا البيت كان يجمعنا كعائلةٍ كبيرة، وهو ما تبقّى لنا من عطر جدّتي. وأكمل متحدّثًا عن خزائن المطبخ الّتي تبدو متحطّمةً في وسط كومة الرّكام، فهذا ما بقي من المنزل. ويا لحرقة قلبه الّتي بانت في صوته المرتجف حين استذكر آخر مشهد له مع جدّته في ذلك البيت!
لا شكّ أنّ فقدان شخصٍ حبيبٍ موجعٌ لكلّ امرئ. وما يزيد على ذلك الوجع جرحًا أعمق، فقدان المكان الّذي كان يجمع تلك الأحبّة. فلن يعود بوسعه رؤية المشاهد الّتي لطالما جمعته بعالمه البعيد.