الرّوح القدس في التّعليم المسيحيّ هو الأقنوم الإلهيّ الثّالث المحيي. بدأت قصّة الرّوح القدس مع الكنيسة بوعد يسوع لتلاميذه أن يُرسل لهم “موعد الآب،” أي الرّوح القدس الّذي سيُرسله بعد صعوده إلى الآب. كان حاضرًا في الجسد معهم، والآن سيحلّ آخر مكانه. يُشير يسوع إلى أنّ الآتي الموعود به هو “خير لهم”! فهو، مع أنّه اللاّمحدود، كان في تجسّده قد حدّد ذاته في المكان والزّمان والظّرف مثل البشر. أمّا الرّوح فلنْ يحدّه شيء، وسيكون “القادِر أن يفعل كلّ شيء، في قلوب النّاس وفي الكنيسة، أكثر جدًّا ممّا نطلب أو نفتكر بحسب القوّة الّتي تعمل فينا”.
تحقّق هذا الوعد في يوم الخمسين. كان التّلاميذ يصلّون بنفس واحدة، فانسكب الرّوح القدس “وامتلأ الجميع”. كان الرّوح دائمًا في العالم، ونجد سجلاّت عديدة عن عمله في العهد القديم. ولكنّه في تتميم وعد المسيح ملأ الكنيسة والمؤمنين؛ فكلّ مَن يختبر الولادة الجديدة يقبل العطيّة. هكذا نال التّلاميذ قلبًا جديدًا ورؤية جديدة ووحدة داخليّة ونشاطًا فائقًا. كانوا قد آمنوا بالمسيح منذ أمد بعيد، وأحبّوه كثيرًا، ولكن لمّا جاء الرّوح القدس امتلأوا حيويّة وثقة وانطلقوا بالبشارة. ما أعظم الفرق بين العليّة المغلقة قبل يوم الخمسين وأبوابها المفتوحة بعده! لقد ضمّ الرّبّ في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس إلى الكنيسة.
بدأت القصّة إذًا بالوعد، وهي تستمرّ بالقوّة. إنّ المسيحيّة من دون الرّوح القدس تفتقر إلى الحيويّة والجرأة. وتتميّز هذه القوّة بعدّة مواصفات:
إنَّها قوّة تبكّت العالم وتُقنعه، قال بولس “أمّا كلامي وكرازتي فلم يكونا بكلام الحكمة الإنسانيّة، بل ببرهان الرّوح والقوّة. لكي لا يكون إيمانكم بحكمة النّاس بل بقوّة الله”. يجب على الكنيسة أن تكرز بالإنجيل، والكارز قد يتألّم وقد يستشهد، لكنّ هذه البطولات لا تُقنع النّاس فقط قوّة الله العاملة بالرّوح في قلوب النّاس تبكّتهم على خطاياهم وعلى عدم إيمانهم، وتُقنعهم بالبرّ الّذي في المسيح، وبحقيقة الدّينونة وغضب الله المعلن على الخطيَة وعلى الخطاة. قال يسوع إنّ “الرّوح القدس هو الّذي يُبكّت العالم على برّ وعلى خطيّة وعلى دينونة”. وهي قوّة تُنير الحقّ في أذهان النّاس. الرّوح القدس هو الّذي أوحى بأسفار الكتاب المقدّس، وهو يُرشد قرّاءه إلى فهمه. وهي أيضًا قوّة للتّعزية. أخبر أحدهم قصّة عن دليل سياحيّ في الجبال، تطلّع إلى فريق من الرّجال كان يقودهم في طريق جبليّة صعبة وبين قمم عالية ومنزلقات خطرة، فرأى رجلاً يرتجف خوفًا وهو يحاول القفز فوق بقعة ثلجيّة، فصاح به: “أمسِك بيدي، فهي لم تفقد أحدًا ولم تخيّب أمل أحد”. هذا هوَ المعزّي، الرّوح القدس، الّذي يحمي المؤمنين ويقودهم بأمان في دروب الحياة الصّعبة، ويحقّق لهم الوعود الإلهيّة المدوّنة في كلمة الرّبّ. وتظهر هذه القوّة عندما يصلّي المؤمنون فيفحص قلوبهم ويشفع فيهم. وهي كذلك قوّة مالِكَة وحافِظة. يشهد الرّوح داخل المؤمن أنّه ابنٌ لله، ويؤكّد له رجاء الحياة الأبديّة. يقوم الرّوح القدس بدور الختْم، لكي يشعر أولاد الله بالأمان من جهة المستقبل، ويتعهّدهم ليَصِلوا سالمين إلى بيت الآب.
يجب على كلّ مؤمن بالمسيح أن يسأل ذاته إن كان مُمتلئًا بهذه القوّة. يُشير الرّوح القدس إلى المشاركة الإلهيَة الإنسانيّة، أي أنّ البشر يشاركون الله في قوّته اللاّمحدودة. في تجسّده، مشى اللهُ إلى العالم، وفي حلول الرّوح يوم الخمْسين، دخل قلوبهم “لِيَمْكُثَ معكمْ إلى الأبَد” كما وعد المسيح. من الصّعب أن يكون المسيحيّ المؤمن دون المستوى المطلوب من حيث الذّكاء، ولكنّ الأصعب أن يكون قلبه فارغًا. علّمنا يسوع أنّ الذّي يصل إلى القلب هو الّذي يصدر منه؛ فماذا يمكن أن يصدر من قلب فارغ؟ لذلك، تأمر كلمة الربّ قائلةً: “امتلأوا بالرّوح”.
بدأت قصّة الكنيسة مع الرّوح القدس بالوعد وتستمرّ بالقوّة، وهي تظهر بالثّمر. إنّ المبدأ السّابق، أي ما يصل إلى القلب يخرج منه، يُحتّم ضرورة الامتلاء بالرّوح بهدف إنتاج ثمر الرّوح. يُشير الكتاب المقدّس إلى نوعين من الأمور الّتي تصل إلى القلب وتُنتج أعمالاً تظهر إلى الخارج: “وأعمال الجسد ظاهرة، الّّتي هي: زِنًى عَهارة نَجاسَة دَعارة عِبادة الأوثان سِحْر عَداوَة خِصام غَيْرَة سَخَط تَحُزّب شِقاق بِدْعَة حَسَد قَتْل سُكْر بَطَر… وأّمّا ثّمر الرّوح فهو: مَحبَّة فَرَح سَلام، طولُ أناة لُطْف صَلاح، إيمان وَداعَة تعفُّف…” (غل 5: 19-23). من المهمّ أن يطرح كلّ إنسان على نفسه هذا السّؤال الفاحص: هل قلبي محصور بأمور مُلتوية أو بالرّوح القدس؟
من يتأمّل في ثمر الرّوح بإمعان يلاحظ أنّه يجسّد صفات المسيح حين عاش بين النّاس. يتقدّم عمل الرّوح في الكنيسة ليُنتج في أعضائها حياة على غرار حياة المسيح. قد يكون من الصّعب فهم ذلك، ولكنّه يصير واقعًا ملموسًا عندما يمتلك الرّوح الكنيسة. كلّ مؤمن يمتلك الرّوح القدس؛ ولكن هل الرّوح القدس يمتلك كلّ مؤمن؟ يُصرِّح الرّسول بولس: “في كلِّ شيء نُظهِر أنفُسَنا كخُدّام الله: …في طَهارة، في عِلْم، في أناة، في لُطْف، في الرّوح القُدُس، في مَحبَّة بلا رِياء، في كلام الحقّ، في قوّة الله بِسِلاح البِرّ…” (2كو 6: 4-7). هل وضع الرّسول بولس قصدًا الرّوح القدس وسط الفضائل، أربعًا منها في كلّ جانب؟ إنّه لا شكّ المنبع الرّئيس للفضائل المسيحيّة. إذا كانت هذه الفضائل غير متأصّلة في الرّوح فستنتهي بالبرّ الذّاتيّ، أمّا إذا كانت متأصّلة فيه فإنّ نهايتها التّكريس المرفَق بالإنكار الذّاتيَ.
لا يمكن للكنيسة أن تتجنّب الرّوح القدس، لأنّها بذاك تتجنّب طريق القوّة والحياة، وتفقد هدف وجودها الأسمى ودافع خدمتها الحقيقيّ. ما تحتاج إليهِ الكنيسة هو مفهوم واضح لذات الأقنوم الثّالث ولعمله ودوره، وسلوك متوازن بين فضائله ومواهبه وثمره، وتكريس صادق لقيادته. يحلّ الرّوح القدس في المؤمن عند ولادته من فوق. ينبغي، من ثمّ، أن يسمح له بأن يشقّ طريقه في حياته ليختبر قوّته وبركته واستخدامه له.