ظلمة، فنور، فانتصار
ما هو الهزيع الرابع؟
قسّم الأقدمون الليل قديمًا إلى أربعة “هزع” أو أقسام، كلٌّ منها يمتّد لثلاث ساعات. فكان الهزيع الأوّل يُسمّى “المساء”. والثّاني “نصف الليل”. والثّالث “صياح الدّيك”. أمّا الهزيع الرّابع فهو “الصّباح”، ويمتدّ من السّاعة الثّالثة حتّى السّادسة صباحًا. يُعدّ هذا الهزيع أشدّ أوقات الليل ظلمةً، لكن في نهايته يشرق النّور ويبدأ الفجر بالبزوغ.
بحسب الإنجيل المقدّس، كثيرًا ما كان الرّبّ يسوع يظهر لشعبه في الهزيع الرّابع، أي في أصعب اللحظات، حين يبدو كلّ شيء قد انتهى، وينعدم الأمل. هناك، في عمق الظّلام، يتدخّل الله ويُظهر مجده، فيأتي نوره كالفجر، ينتهر الظّلمة ويقهرها.
رحلتي مع المرض
اختبرتُ ظلمة الهزيع الرّابع مرّات عديدة في حياتي، لا سيّما في السّنوات الأربع الأخيرة، عندما سمح الربّ بعودة مرض السّرطان وانتشاره في عظامي، بعد شفائي من سرطان الثّدي عام 2011. كثيرًا ما ظننت أنّ الفجر لن يأتي، لكن الله كان دائمًا يتدخّل في الوقت المناسب، ليُظهر حكمته وقوّة نعمته.
كسر عظمة القصّ
في مطلع عام 2021، تبيّن أنّ المرض قد انتشر إلى عظامي، وكان الورم فوق عظمة القصّ في صدري قد بلغ عشرة سنتيمترات، ممّا أدّى إلى كسر مفاجئ في هذه العظمة. كنت أتهيّأ للذّهاب إلى الفراش عندما شعرت بألمٍ شديد، وكأنّ قطارًا مرّ فوق صدري. وصلت إلى السّرير بمساعدة زوجي، وقضيت الهزيع الرّابع من تلك الليلة بين الحياة والموت. تمنّيت أن يتوقّف نفَسي إذ كان الألم شديدًا في صدري مع كل ّنفس أتنفّسه. وعندما لم تُجْدِ المسكّنات نفعًا، لجأت إلى الصّلاة والاستماع إلى التّرانيم المعزّية، فسمعت ترنيمةً تقول:
في الهزيع الرّابع وسط ليل الانتظار
عندما يخبو الرّجاء والمنى تبدو بخار
إذ بصيص الأمل يختفي ولا منار
في الهزيع الرّابع تستجيب سيّدي
طربتُ لكلمات التّرنيمة، وعلمت أنّ الصّبح قريب، وأنّ الرّبّ سيتدخّل بلطفه ومحبّته، وسيستجيب لصلاتي، وسينتهر الألم بقوّته العجيبة.
إصابة فقرة في العنق
أظهرت الصوَر الشعاعيّة أنّ الفقرة D1 في أعلى العمود الفقري قد بدأت في التّآكل، ممّا شكّل بعد وقت قصير، خطرًا على النّخاع الشّوكي المسؤول عن جميع وظائف الجسد. اضطررتُ إلى ارتداء طوق بلاستيكيّ قاس ليل نهار ولمدّة ثلاثة أشهر لتفادي خطر الشّلل. كانت تلك أطول تجربة “هزيع رابع” مررت بها، حيث تسبّب الطّوق في تقلّصاتٍ وآلامٍ شديدة في عضلات الكتفين. لكنّ ذلك، لم يزعزع إيماني وثقتي بأنّ الله سيُظهر عمله بطرق لا تخطر على بال.
تآكل عظمة الورك
توالت التّحدّيات بعد ذلك إذ لم تعد العلاجات الكيميائيّة فعّالة كما في السّابق. وبعد ثلاث سنوات من انتشار المرض، بلغ الخطر منطقة الورك، وتبيّن أنّ خطر كسر عنق الورك وشيك جدًا. لذا، كان لا بدّ من إجراء عمليّة وقائيّة لزرع قضيب معدنيّ في الفخذ لدعم العظمة.
قد يبدو الأمر بسيطًا عند التحدّث عن إجراء عمليّة لجسمٍ سليم، لكنّه بالغ الصّعوبة لمريض سرطان يعاني من ضعف المناعة وفقر في الدّم. ومع ذلك، وكما في المرّات السّابقة، وثقتُ أنّ صلاتي هي ملجأي، وأنّ مشيئة الربّ ستتحقّق، فهو الّذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كلّ حين (2 كورنثوس 2: 14). أليس هو من هدّأ العاصفة في الهزيع الرّابع عندما خاف تلاميذه في منتصف البحر؟ أليس هو من أقام لعازر في اليوم الرّابع بعد أن أنتن؟ هو نفسه الإله القادر أن يقيمني من هذه العمليّة بانتصار.
ما الّذي يهمّني الآن؟
إنّه العام الخامس منذ انتشار المرض، لكن لم يعد يهمّني تعداد الأعوام أو الأيّام. ما يهمّني هو علاقتي العموديّة مع خالقي الّذي جبل عظامي وشكّلها، وهو المسؤول عنها. ما يهمني أنني بين يدي إلهٍ قادرٍ أن يحفظ نفسي له حتّى ذلك اليوم.