لم تعرف الأديان والشعوب الغفران على مدى التاريخ البشري، بل قامت علاقة الإنسان بالإنسان منذ قايين على التقاتل والغلبة، والإستئثار بالأرض والأملاك، كما قال الشاعر اللاتيني بلانت Plante: “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”. وقد سبقه في وصف حقيقة الإنسان قول الله في سفر التكوين: “ورأى الرّبّ انّ شرّ الإنسان قد كَثُر في الأرض، وأنّ كل تصوّر أفكار قلبه إنّما هو شرير كلّ يوم.” (تك 6: 5).
وأكمل الناموس اليهودي منطق محبّة القريب وبغض العدو، وردِّ التعدّي تعدّيا والإنتقام انتقامًا. “سمعتم أنّه قيل: تحبّ قريبك وتبغض عدوّك” (مت 5: 43).
إلى أن اطلّ المسيح يقلب المقاييس ويتجاوز الفكر الإنساني؛ مُحدِثًا إنقلابًا عجيبًا في العلاقات الإنسانيّة، مُناديًا بفلسفةٍ جديدة محورها “الغفران” في التعدّي والظلم، قائمةٍ على قتل العداوة بالمحبة ومحو اللعنة بالبركة، ونبذ البغضة بالمسامحة. فيموت الحقد في صفاء الطويّة، ويتفجّر السّلم في غروب الحرب، ويغيب في رحب السلام، ويرتقص الأمان على أوتار الوئام. هذا الغفران من معدن السماء ومن صناعتها. مُنبثقًا من شخصية المسيح الذي مارسه حياةً. قبل أن يُعلنه تعليمًا؛ ورسمه خطًّا يصلُ السماءَ من الأرض، خالقًا صُلحًا بين قدسيّة الله ونجاسة الإنسان. فالتقت الرحمة الحقّ، ولثم السلام البِرّ، بتجسدِ الغفران الأعظم في:
أغرب محاكمة سُباعية في التاريخ.
وسَيل الاتّهامات الكاذبة… المزوَّرة.
وحمل خطايا البشر… البشر جميعهم.
وأفظع وأرهب ميتة على صليب،
متروكًا من السماء، مرفوضًا من الأرض،
مُعلَّقًا من الإنسان.
وأنهى فلسفته بأروع جملة، وأعمق آية، وأعظم عبارة؛ طالبًا الغفران لجلاَّديه، ومُعذِّبيه، وصالبيه، وطاعنيه، ومقتسمي ثيابه قائلًا: “يا أبتاه اغفر لهم لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.
فَهِمَ أتباعه الغفران، ونفَّذوا وصيّته بأن يغفر بعضهم لبعض. وعندما سأله أحدهم عن حدود هذا الغفران، أجابه المسيح: “لا أقول لك الى سبع مرَّات، بل الى سبعين مرّة سبع مرَّات” أيّ إلى 490 مرّة في النهار الواحد (مت 18: 21-22). هذا العدد الكبير من الغفرانات يُعبِّر عن لا نهائية الغفران، هذا هو الغفران المسيحيّ.