خرجت جنيفر (إسم مُستعار) من منزلها، مسرعةً كي تصلَ في موعدها. وخلال قيادتِها السيّارة، اِعترضَ طريقها رجلٌ يحبو على أطرافهِ، مرتديًا زيَّ كلبٍ وطوقًا حول عنقِه. أطلقت بوقَ سيّارتِها لتنبّهَهُ، فلم يكترث. أوقفتِ السيّارةَ وترجّلتْ منها، ثمّ صرخت بغضب: “ما الذي أصابَك؟هل جُنِنْتَ؟” عندئذٍ، فغرَ الرّجلُ فاهُ ونبح في وجهها تمامًا كالكلاب. في هذه الأثناء، أسرعت نحوها فتاة ٌمراهقة، وانهالَتْ عليها بالشّتائم، ثمّ انحنت نحو الرّجل تستعطفه قائلةً: “لا تخف يا “بوبي” هشْ اِهدأ”. أثارت هذه الفوضى انتباه الشّرطيّ الذي غرّمَ جنيفر مبلغًا ماليًّا باهظًا، باعتبارها انتهكت حريةَ الآخرين الشّخصيّة.
قد يُراودُكَ الظّنُّ أنّ ما قرأتَه هو مشهدٌ من فيلمٍ خياليّ أو “فنتازيا”، ينقلُكَ من عالم الواقع إلى عالم الخيال والعجائب، وأنتَ في ظنّك مُحقٌّ. فمِنَ العجبِ أن ترى رجلاً عاقلاً اختار أن يتخلّى عن إنسانيّتِه ليصبح َكلبًا، ولكن الأعجب منه أنّ آلاف البشرِ في أوروبا يتحوّلون إلى كلاب، فتراهم يجوبون الشّوارع بأطواقٍ حول أعناقِهم، يلهثون، وينبحون في وجوه المارّة.
هذه الظّاهرةُ المستَهجنة برزَت كحالاتٍ نادرة، لكنّها سرعان ما انتشرَتْ في العديدِ من الدّول، بدعمٍ وتشجيعٍ من بعض الحكومات الغربيّة التي لا تكفُّ عن التّباهي بحقوق الإنسان. فهل مِنْ سماتِ الحرّيّة أنْ يُجَرَّ إنسانٌ من عنقِه، يلعق حذاءَ مالكِه مُطيعًا خاضعًا؟ أهذا هو مفهومُ الحريّة أم أنّهُ استكلابٌ واحتقار؟ وبدلًا من مواجهة هذا الإنحراف القذر، قامت الشّركاتُ الأوروبية بتعزيزه، عبر افتتاحِ متاجرَ مختصّة بأزياءِ الكلاب البشريّة وأكسسواراتها. ولم يقتصرِ الأمر على ذلك، بل قاموا بفتح منتدياتٍ ونوادٍ تضمُّ مدرّبين متخصّصين لتعليم البشر حركات الكلاب، كالحبو والرّقص بهزّ أذيالهم الإصطناعيّة، والتمرّغ في الأرض؛ تدريباتٌ هدفها المشاركة في مسابقةٍ أوروبية على مستوى القارّة، تحضرُها جماهير غفيرة لانتخاب “مستر أوروبا” لأفضل كلبٍ بشريّ. إنّها بِحَقّ سابقةٌ غريبةٌ في تاريخ البشريّة!
وفي السّياق نفسه، أكّد أطباءُ علمِ النّفس في جامعة لندن، أنّ هؤلاء الأفراد “المستكلبون”، يعانون من اضطّرابِ الشخصيّةِ الإجتنابي الذي يتّسم باحتقار الذّات والشّعور بالدونيّة. هؤلاء العلماء اعتادوا إطلاق تسميّاتٍ طنّانة ورنّانة على خطايا البشر؛ فالإسراف في شربِ الكحول يُسمّى “إدمانًا” وليس”استعبادًا”، والمراقبةُ بهدف الإثارة تُسمّى “اِضطراب التلصّص” بدلًا من “خطيئة الاشتِهاء”، والاستكلابُ يسمّى “الشخصيّة الإجتنابية” بدلًا من “خطيئة احتقار الإنسان لخليقة الله”، والقائمة تطول…
لم تعد”الكلاب البشرية” مجرّدَ ظاهرةٍ عابرة، بل أصبحت مهنةً تدرّ أموالاً طائلة، يصلُ فيها سعر”المستكلب” إلى 70 ألف دولار. وضجّتِ المواقعُ بقصّة الشّاب الياباني “توكو” الذي أنفق 22 ألف دولارٍ لتحقيق حلمه في أن يصبحَ كلبًا. هذا الانحراف له عدّة أسباب، منها الطّفولة القاسية المعنّفة، ممّا دفع أصحابها للبحثِ عن الرّاحةِ والهروب من المسؤوليّة، كما يُعزى أيضًا إلى دوافِعَ جنسيةٍ منحرفة ترتبط بالمازوخية (حبّ الإهانة) أو السّادية (حبّ السيطرة)، إذ يسعى البعض إلى الانخراط في هذا الدّور لتحقيق “فوز الجميع “ما يُعرف بمفهوم “Win-Win Situation”.
خلقَ اللهُ الإنسان على صورتهِ كَشبههِ، وميّزَه عن سائر المخلوقات، فمنحهُ الكرامةَ والإرادةَ الحرّة. غير أنّ البعض، وللأسف، يُمْعِنُ في تشويهِ هذه الصّورةِ السّامية، فيختار طوعًا الانحدار إلى مستوى البهيميّة والغرائزيّة. لقد استنكرَ العالمُ بشدّةٍ حين أتى “داروين” بنظريّة التطوّر ومَفادُها أنّ أصل الإنسان قرد. فهل سيشعرُ العالمُ اليوم باستفزازٍ مماثلٍ حين يسير في الشّوارعِ ويرى الكلاب البشريّة زاحفةً نابحةً، ولعابُها يسيل؟ أمْ سيصدق المثلُ القائل “الكلابُ تنبح والقافلةُ تسير”؟