مَن يُخلّص النّاس من خطاياهم؟ شغل هذا السّؤال اللاّهوتيّين كما عامّة النّاس منذ القدم. بعضهم يظنّ أنّ الخلاص يكون عبر حفظ فرائض وطقوس مُعيّنة. بعضهم الآخر يؤمن بأنّ الخلاص يكون بالانضمام إلى جماعته الدّينيّة. وعدد لا بأس به مُقتنع بأنّ الخلاص يكون بالأعمال الصّالحة أو عبر الانخراط في التّأمّل النّفسيّ والرّوحيّ أو بوساطة قهر الجسد. يختلف الكتاب المقدّس مع هذه الأفكار، إذ يؤكّد أنّ الخلاص هو عمل “شخص مُخلِّص” يُخلِّص العالم. وهو لا يترك القارئ في غموض ليستنتج لنفسه ما تمكّن، بل يقوده، ومنذ الصّفحات الأولى، إلى معرفة أنّ الخلاص لا يكون إلاّ بمخلّص أتمّ الخلاص، وما على الإنسان إلاّ قبوله في حياته لينعم بخلاصه الأكيد.
الحاجة إلى وجود مُخلّص
إنّ سقوط آدم وحوّاء، ومعهما كافّة الجنس البشريّ، في الخطيّة، أوجَب وجود مُخلِّص قادر على أن يُخلّصهم منها. فالخطيّة جلبت الموت والفساد الكلّيّ والعجز المُطلَق إلى حياة الإنسان. وهذه كلّها نراها بوضوح في كلمة الله: (1) الموت كنتيجة للخطيّة (تكوين 2: 17؛ رومية 5: 12)؛ (2) الفساد الكلّي، أي فساد كلّ إنسان وفساد جميع النّسل البشريّ (رومية 3: 10-12)؛ (3) عجز البشر المُطلق عن تخليص أنفسهم من ورطة الخطيّة ونتائجها، بسبب حالة الموت والفساد الكلّيّ الّتي جلبتها الخطيّة على حياتهم وعالمهم (أفسس 2: 1-2). بناء على هذا، يعجز الإنسان عن تخليص نفسه، ممّا يستوجب وجود مُخلّص يُخلّصه. لذا، وعد الله بمجيء مُخلّص، به يكون خلاص البشريّة (تكوين 3: 15).
طبيعة المُخلّص
على المُخلّص أن يُولد من امرأة ليشترك في الطّبيعة البشريّة مع باقي البشر، وليكون تحت الحكم الإلهيّ الّذي نزل على جميع النّاس بسبب خطاياهم (تكوين 3: 15؛ غلاطية 4: 4؛ عبرانيّين 2: 14-15). وعليه أن يكون إلهًا في الوقت ذاته، ليكون بارًّا من دون خطيّة؛ ففي عالم البشر ليس مَن لا يُخطئ، وحده الله قدّوس وبارّ وبلا عيب، لذلك يستطيع أن يُخلّص الخطاة (1صموئيل 2: 2؛ إشعياء 45: 21-22). وعليه أيضًا أن يكون إلهًا قادرًا على أن يُتمّم خلاصًا كاملاً غير ناقص في أيّة ناحية (عبرانيّين 7: 25-27). هذه المواصفات لا توجد في غير المسيح، الإله القادر والإنسان البارّ القادر وحده على أن يُخلّص البشريّة من الخطيّة وعقابها وحضورها، وعلى أن يُعيد الإنسان إلى الشّركة مع الله (أيّوب 9: 33؛ 1تيموثاوس 2: 3-6).
لقد كانت طبيعة المُخلّص موضع نقاش وخلاف في التّاريخ المسيحيّ. فمنهم مَن رأى في المسيح أنّه مُجرّد إنسان، ومنهم مَن قال إنّه مُجرّد إله، وفي كلا هذين الرأيَين قصور يمنع على المسيح أن يكون المُخلّص القادر على أن يُتمّم الخلاص الّذي يحتاج إليه كلّ إنسان. لقد حُسِم الجدل في مجمع “نيقية” عام 325 م، بالتّشديد على الحقّ الإلهيّ، وهو أنّ المسيح إنسان حقّ وإله حقّ كما أُعلِن في الكتب المقدّسة. المسيح وحده هو إنسان حقيقيّ قادر على أن يحمل خطايا النّاس وأن يخضع لعدالة الله حاملاً قصاص الخطيّة، ولكونه إلهًا، هو وحده قادر على أن يقف أمام عرش الله مُقدّمًا عمله كفدية كاملة وعلى أن يضمن قبولها من الله عن جميع البشر (1بطرس 3: 18). فيكون المسيح وسيطًا ذا طبيعتين، إلهيّة وإنسانيّة، مشتركتين بين الله والنّاس، ممّا يجعله المُخلّص الوحيد للنّاس، والوسيط الوحيد بينهم وبين الله (يوحنّا 14: 6؛ أعمال 4: 12؛ عبرانيّين 8: 6؛ 9: 15؛ 12: 24).
أعمال المُخلّص في كافّة الأزمنة
تختلف أعمال المُخلّص في الأزمنة المتعدّدة إلاّ أنّها تتوافق كلّها من نحو الهدف، إذ كلّها تؤول إلى خلاص الإنسان. فالمسيح، قبل تأسيس الأزمنة، كان علّة وجود العالمين والنّاس، وسبب حفظ الخليقة الّتي جُعلت له، وهو دومًا هدف الوجود (يوحنّا1: 3، 10؛ كولوسّي 1: 16؛ عبرانّيين 1: 2)، وفيه تمّ اختيار المؤمنين (أفسس 1: 4؛ 2تيموثاوس 1: 9؛ 1بطرس 1: 1، 2، 18-20؛ رؤيا 13: 8). أمّا المسيح المُتجسّد فهو المُخلّص الّذي بذل نفسه ليُخلّص العالم (متّى 1: 21؛ يوحنّا 1: 29؛ أعمال 5: 30-31؛ 13: 23؛ عبرانيّين 7: 25). والمسيح المُقام هو الّذي أظهر مجده كابن الله بقوّة الرّوح القدس ليؤكّد انتصاره على الموت، وبالتّالي الخطيّة، ويُعطي رجاء الحياة الأبديّة للّذين يؤمنون به (رومية 1: 4؛ 1كورنثوس 15: 1-4؛ 17، 20-22، 55-57).
والمسيح الجالس على يمين العرش في السّماء يشفع بالتّائبين العائدين بوساطته إلى الله (عبرانيّين 7: 25) وبالمؤمنين الّذين يُخطئون (1يوحنّا 2: 1)، وهو يرأس كنيسته (أفسس 1: 20-22؛ كولوسّي 1: 18)، ويبني المنازل للمخلَّصين الّذين سيأتي بهم إلى الأمجاد (يوحنّا 14: 2-3)، ومن هناك، من على العرش السّماويّ، يسود الكون ومجريات التّاريخ (أفسس 1: 20-21). والمسيح، بمجيئه الثّاني، يأتي ليجمع مختاريه (متّى 24: 31) ويُريحهم من أتعاب الحياة وتجاربها، وليتمجّد وسط قدّيسيه (2تسالونيكي 1: 7-10)، ويُدخلهم ملكوته حيث يتعبّدون له إلى الأبد (دانيال 7: 13-14). أمّا المسيح في الأبديّة فيخضع له كلّ شيء، حتّى الموت، ليكون الله “الكلّ في الكلّ” (1كورنثوس 15: 24-28). أمّا ملكه فهو مُلك أبديّ ليس له نهاية (لوقا 1: 31-33؛ رؤيا 11: 15).
هكذا يكون الخلاص هو دائمًا خلاص المسيح، فمن دونه لا خلاص لأحد من الخطيّة أو من هذا العالم الهالك. فالخلاص هو دائمًا عمل المخلِّص، وهو خلاص أبديّ لا نهاية له، وثابت غير متزعزع. مَن أراد هذا الخلاص عليه أن يأتي إلى المسيح فيخلص للحال وإلى الأبد.