القصر موحش. العتمة تظلّل الممرّات وتغطّي الجدران. حزنٌ واضطّرابٌ يجثوان على قلب كلوديا ما جعلها في غرفتها دائمة الحركة. كان النّعاس قد أثقل جفونها. وما إن تغمض عينيها حتّى يداهم قلبها المضطّرب الهلع، فتقفز من السّرير وتهرع إلى النّافذة المتطايرة ستائرها الحريريّة الأرجوانيّة، فتبدو وكأنّها مصبوغةٌ بالدّم.
لم تعرف كلوديا سببًا لحزنها الغريب، ولا لقلقها. فهي كانت في انسجامٍ تامّ مع زوجها الحاكم بيلاطس وكانا متحابّين وبغاية السّعادة.
همهمات حراس القصر والتّعب ساعدا كلوديا في الهزيع الأخير من الليل على النّوم فغفت. رأت نفسها سابحةً في الفضاء، لا تعرف أين هي، ولا ما الّذي أتى بها إلى وسط الغيم. وإذا بملاكٍ من نور يمسك بيدها، ويبدآن معًا بالنّزول صوب الأرض يخترقان الغيم الأبيض… كانت سعيدةً وهي تسبح في الفضاء، وما إن انكشفت الجبال والأشجار الدّاكنة حتّى بدأ الحزن يتسلّل إلى قلبها مجدّدًا. الملاك المشبع بالنّور وذو الوجه المشرق كما صفحة السّماء، قال لها حالما وطأت أقدامهما الأرض: “طوبى لكِ”. ثمّ رأت النّاس يتقاطرون من كلّ الجهات. وإذا بأناس مقبلين وهم متجهِّمي الوجوه يشتمون ويلعنون شابًّا ثلاثينيًّا قد أحبّته الجماهير ويجادلونه بصراخ وسباب. وإذا بوجه الشّاب يُشوَّه بالكدمات والدّماء، ويتلطّخ ثوبه الكتّان بالأحمر القانيّ.
أفاقت كلوديا على جلبة وضجيح. فتحت عينيها. كان ضوء النّهار يملأ أرجاء الغرفة والأصوات تتعالى صاخبة ويتناهى إلى مسمعها من ناحية ساحة القصر صوت زوجها. كان بيلاطس يصيح محاولًا تهدئة جموح الحشد الهائج: “اسكتوا اسمعوا”.
ثمّ نظر في وجه يسوع المدمَّى والمغطّى بالكدمات وسأله: “أأنتَ ملكٌ إذن؟” فقال له يسوع: “أنتَ قلت”. هنا ازداد صياح الشّيوخ ورؤساء الكهنة وأخذوا يشتكون عليه ملفّقين أخبارًا. فالتفت بيلاطس مُجدّدًا إلى يسوع وسأله: “أما تسمع ما يشهدون عليك؟” لم يجبه يسوع بشيء. هزَّ بيلاطس رأسه متعجّبًا وهو يتأمّل يسوع، ثمّ توجّه إلى الجمع الهائج محاولاً تهدئته، وقال لهم: “حسنًا، أنتم في العيد. سأطلق لكم سجينًا، ولننهِ هذه المسألة” هنا صرخ الجمع بصوتٍ واحد: “أطلق لنا براباس”.
وهنا وصلت كلوديا إلى الشّرفة، وما إن رأت يسوع وهو مكبَّل ومدمَّى حتّى شهقت وصرخت: “إنّه هو. إنّه من رأيته في الحلم”. هنا ندهت على الفور حارسها الشّخصيّ الّذي كان يتفرَّج على ما يجري: “أتالوس. أتالوس. انزل فورًا إلى بيلاطس وقل له: تقول لك السيّدة، إيَّاك وذلك البار لأنّي تألَّمت اليوم كثيرًا في الحلم من أجله… لا تسئ إليه”.
عندما هبط العسكريّ سلّم الشّرفات وصل إلى بيلاطس وهمس في أذنه ما أوصته به كلوديا. هنا رفع بيلاطس عينيه ورمى زوجته بنظرةٍ حزينةٍ مربَكَة، ثمّ توجّه إلى الجمع وأعاد السّؤال بصوت حانق: “من تريدون أن أطلق لكم؟ يسوع أو باراباس؟” هنا صاح الجميع وقد حرَّضهم رؤساء الكهنة والشّيوخ: “براباس… أطلق لنا براباس”. عاد وسألهم بيلاطس: “وماذا أفعل بيسوع الّذي يدعى المسيح؟” فأجابوه: “أصلبه. أصلبه”.
وعندما سألهم عن الشرّ الّذي فعله ازدادوا هيجانًا. كادت الأمور أن تنفلت. فلمَّا رأى بيلاطس أنّ الوضع يزداد سوءًا، أخذ ماءًا وغسل يديه وهو ينظر إلى كلوديا وقال: “إنّي بريء من دم هذا الصدِّيق.” ثم أسلمه إلى الجلد والصَّلب…
هنا خرجت كلوديا من الشّرفة غاضبةً والدّموع تملأ عينيها وهي تردّد: “جبان أنت يا بيلاطس. كيف لم ترَ الحقَّ. كيف؟! لو لم تره لما غسلت يديك، لكنّك رأيته وجبُنْتَ. الجُبْنُ صنو الغباء يا بيلاطس. الجبن صنو الغباء. أنت سلّمت دمًا بريئًا. كيف حمّلت ضميرك يا بيلاطس؟”