أوائل العشرينات من عمري، ذهبت في أول أسفاري إلى بريطانيا لزيارة قريبتي المتزوِّجة من رجل إنكليزيّ وتسكن في حيّ راقٍ في لندن. ولا أنسى صورة جون وسلي بطل النهضة الميثوديّة المعلّقة على مدخل الدار، والكتب تلفّ الحيطان. قالت لي، هنا في بريطانيا الإنكليز مهووسون بالقراءة إلى درجة إنّ الكتب موجودة في كلّ غرف البيوت. وهو ما يسهل على المرء ملاحظته، لأنّه يشاهد الناس في القطارات وفي وسائل النقل العامة يقرأون بشغف، لا تفارق الكتب أيديهم أو حقائبهم. ولا عجب في أن تكون بريطانيا عظيمة!
نحن، عندنا، نهتمّ بظواهر الحياة من ملبس وطعام وبيوت وسيارات. ولا أثر كبيراً لهذه “الأشياءِ” على النفس البشرية سوى أنها تضعفها وتخربها إن احتلّت المكانة الأولى فيها. أما المطالعة فتترك أثرها الطيّب المباشر والكبير على الإنسان. ليس في المطالعة خَسارة بل إنّها ربح كلّها، وأزيدُ أنّها تضفي قيمة مضافة على حياة القارئ الإنسانية.
إنّ اضمحلال عادة المطالعة المفيدة لدى العرب سبب أساسيّ في كبْوَتهم وتراجعهم. لا أقول إنّ القراءة معدومة، لكنّ القراءة المفيدة في حالة اضمحلال. ما هي الكتب التي يقرأها الناس اليوم؟ بل ونستطيع أن نسأل: ما هي المواقع الإلكترونية التي يزورونها، إذا لم نرغب في التمييزِ بين الكتب الورقية وتلك الإلكترونية؟ نخجل أن نقول إنّها غير مفيدة بمعظمها. تحتاج كلمتي إلى البحث الدقيق في عدد العناوين المترجمة والمستوردة وتلك التي تصدر وتباع في الأسواق المحلية. قد تساعد مشاهدتي الشخصيةُ في معارض الكتب على فهم الوضع الراهن ونحن لا نرى الكثيرين يذهبون إلى تلك المعارض للبحث عن الكتب المفيدة بقدر ما يذهبون لحضورِ احتفالات توقيع أحرجهم أصدقاؤهم الكتّاب بدعوتهم إليها.
باختصار، ناسنا غير مغرمين بالكتب. أمّا في احتفال المسابقة الوطنية للمطالعة، وقفنا أمام ثلّة من الناس المثقفين الذين أحبوا الكتابَ، لا بل أقول، أحبوا أنفسهم حتى إنّهم أَوْلَوْها الاهتمام الفكريّ الضروريّ لنموّها ولسعادتها ولازدياد قيمتها. ليست كلّ مرة نستخدم فيها عبارة “محبة الذات” نقصد بها الأنانية السيئة والمنفِّرة. فنحن نحبّ أنفسنا ونعتني بصحتنا وبنفسيتنا وبأحوالنا الحياتية، ولا نقصد بهذه المحبة أن نُشوّه صورتنا الإنسانية السامية. في حبنا للكتاب والمطالعة نُظهر أسمى محبة للذات التي ترتفع بها إلى قمَّة أعلى من كونِنا إنساناً منتجاً ليستهلك ويأكل ويشرب ويتمتّع بالحياة الدُّنيا الفانية.
المطالعة تحفِّزُنا عقليًّا وتحافظ على ذاكرتنا وصحتنا الذهنيّة وتوسّع مداركنا المعرفية والثقافية وتعزّز قدرتنا التحليلية وتعمّق اختبارنا الإنسانيّ وتزيل التوتّر المتراكم فينا بسبب طبيعة حياتنا المعاصرة وتغمرنا بسلام عجيب… والأهم أن المطالعة، تخلق منَّا إنسانًا ذا قيمة ثمينة ونادرة في زمن يرخَصُ فيه كلّ شيء، إذ يكثر التَّقليد وكلّ بخس، حتَّى بين الناس.
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً.
اختيارات المحرر
المطالعة وقيمة الإنسان
المطالعة تحفِّزُنا عقليًّا وتحافظ على ذاكرتنا وصحتنا الذهنيّة وتوسّع مداركنا المعرفية والثقافية وتعزّز قدرتنا التحليلية وتعمّق اختبارنا الإنسانيّ وتزيل التوتّر المتراكم فينا بسبب طبيعة حياتنا المعاصرة وتغمرنا بسلام عجيب... والأهم أن المطالعة، تخلق منَّا إنسانًا ذا قيمة ثمينة ونادرة في زمن يرخَصُ فيه كلّ شيء، إذ يكثر التَّقليد وكلّ بخس، حتَّى بين الناس.
شاركها.
فيسبوك
تويتر
لينكدإن
البريد الإلكتروني
واتساب
السابقماذا حلّ بكِ يا “باربي”؟
التالي المواعَدة عبر الإنترنت