الكبرياء صفةٌ تُبعِد الإنسان عن التّذلّل فيصون كرامته ومكانته، ولكن عندما تلامس عتبة الغرور تتّخذ منحًى آخَر من السّلوك، الإعجاب بالنّفس والتّفاخر. بمعنى آخر، الغطرسة. وبحسب الدّراسات الّتي أجراها فريق من العلماء النفسانيّين يُدعى NeuroLaunch، فقد وصلوا إلى خلاصة مفادها: “إنّ التّكبّر ظاهرة نفسيّة معقّدة”. وأكّدوا في نهاية بحثهم مرجّحين أنَّ “الرّأي الأكثر دقّة هو النّظر إلى الغطرسة باعتبارها حالة نفسيّة معقّدة تنطوي على مكوّنات عاطفيّة وأخرى شبيهة بالسّمات الشّخصيّة.”
ولكون التّعجرف ينتج عن شعور صاحبه بالنّقص، فإنَّ النّاقص، فور اكتسابه علاوة ما، يبدأ صعود أولى درجات التّعظّم والاعتزاز والتّشامخ. فيُشبه بذلك خلايا السّرطان الّتي تتمدّد وتتكتّل بطريقة عشوائيّة فوضويّة في جسم الإنسان. فيُمسي من الصّعب استئصال تشعُّبات التّصلُّف الّتي تتغلغل في حياة المتكبِّر فتُكبّله ولا يعود يستطيع مقاومة الانجرار وراءها. وعلاوة على ذلك، فالتّكبّر كالمرض المعدي الّذي ينتقل عن طريق مرافقة المتكبّر ومخالطته ، وبالتّالي يكتمل الانسجام فتتطابق التّصرّفات.
ولا يسعني إلّا أن أستذكر “عارف” الّذي نشأ في بيئةٍ فقيرةٍ مع أمّه وإخوته التّسعة، ولم يتقبّل حاله أو وسطه. فراح يصاحب مَن علا شأنهم، ويتغاضى عن مرافقة أبناء جيله، ظنًّا منه أنّه سينال مركزًا مرموقًا بين الّذين أحاط نفسه بهم. ولكن سرعان ما خاب ظنّه، إذ اكتشف أنّه لم يكن محطَّ أهميّة عندهم. ففي مناسباتٍ كثيرة لم يكُن يُدعى معهم، ممّا دفعه ليُلاحظ الهوّة الكبيرة الّتي تفصل بين مكانته الاجتماعيّة وإيّاهم. عندئذٍ، انصرف لمشاركة مَن رذلهم في السّابق ولكنّه، في كلّ جمعة، ما غفِلَ عن ذكر أسماء الكبار، كما كان دائمًا يقول “رافق الكبير بتصير كبير”. ومع تقدّم الأيّام، غيّر شكله الخارجيّ لعلّه يُشابه أولئك الكبار. فعلى سبيل المثال، لم يعد يقصّ لحيته إلّا كما يقصّها الدّكتور صديقه. وكان يتعمّد ذكر اسم الحلّاق المشهور واسم صديقه أمام أيٍّ كان، حتّى ولو لم يسأله أو يُسمِعه أيّ إطراء، ليُذكّر بأنّ صديقه عالي الشّأن. فما انفكّ يستعيض نقصه بما حصّله الآخرون. وما زاد على تمسّكه بالقشور البالية، أنّه صار يشتري ملابسه من المحلّات الفاخرة الّتي يقصدها الكبار. كما اصطبغت لهجته وطريقة كلامه بلهجةٍ غريبةٍ تنمّ عن تعجرف وتشامخ. وزد على ذلك، اعتماده أسلوب الإدهاش، فيجعل إجاباته دائمًا مغايرة لسياق الكلام. وما لبث أن نقل العدوى لأولاده، ولكلّ مَن صاحبهم، فباتوا متغطرسين، حاسبين أنفسهم أفضل من الجميع. وهكذا أطلق عليهم أبناء البلدة، “عارف وفرقته”. بل، كلّ مَن لمحهم، هرب من محضرهم، كما كان يحصل في أيّام جائحة الكورونا وكأنّهم خائفون من انتقال العدوى إليهم.
وأنا أفتكر بهذا الشّخص، الّذي سقط في الكبرياء، تذكّرت الملك نبوخذنصّر الّذي ارتفع قلبه فقال: “أَلَيْسَتْ هذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ الْمُلْكِ بِقُوَّةِ اقْتِدَارِي، وَلِجَلاَلِ مَجْدِي؟” فبالرّغم من أنّ الله سبق وحذّره من خطيئة الاستكبار بواسطة حلمٍ، إلّا أنّه أبى الامتثال، ولم يردع نفسه عن غرور العظمة. وبالنّتيجة، ذُلَّ وأُصيب بمرض عقليّ لم يخلص منه حتّى علم أنَّ الله وحده عالٍ في مملكة النّاس واعترف أمام الله وشعبه قائلًا: “فَالآنَ، أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، أُسَبِّحُ وَأُعَظِّمُ وَأَحْمَدُ مَلِكَ السَّمَاءِ، الَّذِي كُلُّ أَعْمَالِهِ حَقٌّ وَطُرُقِهِ عَدْلٌ، وَمَنْ يَسْلُكُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذِلَّهُ.”
ينصحنا الرّسول بطرس نصيحةً قيّمةً تُجنّبنا السّقوط في الكبرياء إذ كتب في رسالته: “تَسَرْبَلُوا بِالتَّوَاضُعِ، لأَنَّ: اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً.” فحذارِ من سلوك دروب العنجهيّة والتّباهي والانتفاخ، إذ إنّ عواقبها وخيمة.