معظم الأكاذيب الّتي يتفوّه بها الإنسان تعتبر محاولات حقيرة يلجأ إليها لحماية غروره وكبريائه.
منذ فترةٍ وجيزةٍ، كان من المفترض أن ألتقي بأحد تلاميذي السّابقين لتناول الفطور. لكنّي، في ذلك الأسبوع، لم أُعِر انتباهاً لجدول مواعيدي، ونسيت كلّياًّ أمر ذلك الموعد. وبعد مضيّ ساعة ونصف على الوقت المحدّد للقائنا، تبيّن لي أنّني تخلّفت عن الموعد، فاتّصلت لأعتذر. بدا تلميذي عبر الهاتف، متسامحاً جدّاً، فقد اعتقد أنّني استغرقت في نومٍ عميق إثر انتهاء التّدريس المُضني في هذا الفصل الطّويل. أمّا أنا فكان عليّ أن أقرّر في لحظةٍ ما إذا كنت سأدعم فرضيّته هذه بعدم الرّدّ، إذ أجعله يعتقد أنّني فعلاً استغرقت في النّوم، أو أن أخترع قصّةً أخرى، أو أن أخفّف من غروري وأخبره ببساطةٍ أنّني نسيته.
أحسست بميلٍ داخليٍ يدفعني إلى الكذب، أو لأكون أكثر دقّةً، أحسست بصراعٍ داخليٍّ يدفعني إلى السّماح له بتصديق تفسيرٍ غير صحيح للحادثة. قد يسمّي بعضهم هذا الأمر “كذبةً صغيرةً بيضاء”، أو”كذبةً مبرَّرةً” لأنّها غير هامّة وتافهة. لكنّ الأمر برمّته يُعتبر خداعاً وتضليلاً مهما حاولنا تغليفه. لست أدّعي أنّني لم أكذب أبداً، لكن في هذه الحادثة، قاومت ميلي إلى الخداع، وعملت بوعيٍ على إخبار الحقيقة. ففي الآونة الأخيرة، صرتُ مقتنعاً بأنّ أصعب التّحدّيات الأخلاقيّة الّتي يمكن أن أُواجِهها هو التّدرّب على أن أحيا حياة صادقة، بكلّ ما تحمله كلمة صدق من معنى. والحقّ يُقال، إنّ التّكلّم على هذا الموضوع يصعب حتّى في الكنائس.
علّمنا الرّبّ يسوع أنّ كلامنا يجب أن يكون “نعم نعم ولا لا” (متّى 5: 37)، وحظّر استخدام الحلفان أو القَسَم. لأنّه عَلِم أنّ إقحام كلمات القَسَم في الأحاديث المهمّة يكشف النّقاب عن حديثنا اليوميّ ويجعله أقلّ صِدقاً. لقد وبّخ الرّبّ الّذين حوّلوا نظام القَسَم اليهوديّ القديم إلى مناورة تحايل على القوانين الأخلاقيّة، مُدمِّرين بذلك الصّدق ومفسدين إيّاه بدلاً من رفع شأنه والتّشجيع عليه. وأوضح لهم أنّ الّذين يريدون إرضاء الله يجب أن يعتادوا قول الحقيقة في كلّ وقت.
لماذا نكذب؟
كتب “بول غريفيث”: “البالغون الّذين لا يكذبون هم تقريباً غير موجودين”. لماذا، في معظم الأحيان، لا نقول الحقيقة؟
نحن نكذب لأنّنا غير مستعدّين لمواجهة نتائج الحقيقة. معظم الأكاذيب هي جهود حقيرة يقوم بها الإنسان لحماية كبريائه. نحن نكذب لأنّنا نخاف من الخزي والعار أو من الشّعور بالإرباك والخجل. وفي محاولة لصون سمعتنا الهشّة وأنانيّتنا السّريعة العطب، نقوم ببيع الحقيقة بحقارة وبأبخس الأسعار.
أحياناً نكذب لأنّنا قد اقترفنا سوءاً، ونكون قد انزلقنا الى الظّلمة عوضاً من البقاء في النّور، ونخشى أن تُفضح أعمالنا (يوحنّا 19:3-20)، فنستخدم الكذب كغطاء يستر خطايانا، لكن غالباً ما يزداد الأمر سوءاً ويصعب علينا يوم انكشاف كذبنا.
أحياناً نُبرِّر الكذب لأنّنا نعتقد أنّ الخداع يُحقّق مآربنا المُلِحّة بسرعة. لقد اعتدنا على حصول هذا الأمر يوميّاً في مجالي السّياسة والتّجارة. لكن ما لم نعتد عليه هو غزو هذا المبدأ لدوائر الخدمة المسيحيّة وللحياة الكنسيّة، حيث صار واقع الحال: نريد أن نكسب “بأيّة وسيلة ممكنة”.
أحياناً نبني تبريرات وتفسيرات حاذقة لخداعنا، أو نجعله جذّاباً بوضعه في أوانٍ بلّوريّة صافية تخدع البصر. وقد نتمكّن من عدم قول الأكاذيب، إلاّ أنّنا في الوقت ذاته ننجح في جعل الآخرين يصدّقون أموراً غير صحيحة. ولكنّ هذا الأمر يُعتبر تضليلاً، وهو بعيدٌ كلّ البعد عن الصّدق كما أنّه يخلو من الاستقامة، وبالتّالي، علينا أن نشعر بتأنيب الضّمير بسبب عمل غدّار وخاطئ كهذا.
أحياناً نلجأ إلى خداع الآخر بإخفاء الحقيقة الكاملة. فعندما تسألك زوجتك مثلاً: “هل شاهدتَ أفلاماً إباحيّةً بعد ظهر هذا اليوم؟” تجيبها بالنّفي قائلاً: “لا، لم أفعل”. إنّ جوابك هذا يبدو صحيحاً من النّاحية التّقنيّة، فأنتَ لم تشاهد أفلاماً إباحيّةً عصر هذا اليوم، إلاّ أنّك قمتَ بذلك في الّليلة السّابقة. فأنتَ، بجوابك هذا، تتقصّد إخفاء الحقيقة مستغلاًّ حرفيّة السّؤال، في حين أنّك تعلم جيّداً ما أرادت زوجتك معرفته من خلال سؤالها المطروح.
ماذا يجب أن نعمل؟
يجب أن نضع جانباً مماحكات الكلام، وأن نتخلّى عن التّفسيرات الحاذقة والتّحايل على القوانين الأخلاقيّة. فإذا أردنا اتّباع يسوع، علينا أن ندرّب أنفسنا على تجنّب الخداع، والرّياء، والنّفاق، والمكر، والازدواجيّة، والمراءاة، والتّضليل والمبالغة. باختصار، يجب الابتعاد عن الكذب بمختلف أشكاله. يجب أن نمكث في الحقّ عوضاً من الكذب والتّضليل، متمثّلين بإله الحقّ (مزمور 31: 5)، وبيسوع المملوء نعمةً وحقّاً (يوحنّا 1: 14)، عالمين أنّ الله لا يتكلّم بالصّدق فقط، وإنّما هو الحقّ بذاته، وهو أمينٌ وصادقٌ في حفظ وعوده. ومن أبرز مظاهر صِدق الله هو صِدق كلماته. هذه الميزة نفسها يجب أن تنطبق علينا نحن أيضاً خاصّته. فتلاميذ المسيح يعلمون الحقّ (1يوحنّا 2: 21)، ويقولونه (يوحنّا 19: 35)، وينتمون إليه (1يوحنّا 3: 19)، ويحبّون بحسبه، ويسلكون فيه (2 يوحنّا 1، 4). فالحقّ ليس فقط أمراً نؤمن به أو نتكلّم عليه. الحقّ المتأصّل والرّاسخ في الإيمان بالثّالوث الأقدس الصّادق والأمين، هو طريقة حياة، ومسلك يُتّبع وبيت يسكنه المؤمن. الحقّ هو التزامٌ فرديٌّ والتزامٌ جماعيّ لجمهور المؤمنين بأكمله، تُبرهنه أعمالهم، إذ إنّه لا يقف عند حدود الكلام.