السّياسة (البوليتيك)، أساسًا هي فن إدارة المدينة (Polis) أو فنّ تدبير الشّعب. وهي هبة السّماء للبشر ليتدبّروا أمورهم في الأرض التي وضعهم الله فيها. هي إذًا تنبع من الله وتعبر في الإنسان لمصلحة الفرد والمجتمع.
أمّا الحكي في السّياسة، فيتناول شؤون النّاس والدّولة، ويهدف أساسًا إلى التّشاور في تحسين أحوال المجتمع الذي نعيش فيه. وبالفعل، يكون هذا الحكي مفيدًا عندما يساعد الناس على فهم حاجات مجتمعهم وخدمة إخوتهم البشر. ويُوسّع حكي السّياسة آفاق النّاس الفكريّة، إذ ينهل من علوم الإنسان والاجتماع والتّاريخ والجغرافيا والاقتصاد والقانون والإدارة والفلسفة واللاهوت والأخلاق وغيرها. وفي هذا الحكي، يتعلّم الإنسان فنون الحوار والتّفاوض والإقناع والمنطق واحترام الآخر والتّعايش معه. هذا كلّه في حال فَهِمَ كلّ مَنْ يحكي السّياسة ما هو دورها الأساسيّ.
لا ننسى أنّ الاجتماع لـ”الحكي في السّياسة”، الذي كان يُسمى “إكليزيّا”، هو الذي أعطي اسمه لجماعة الإيمان بالمسيح فصارت تُسمى “كنيسة”. وكان الرّجال الأحرار في المدينة يجتمعون في المسرح نصف الدائريّ خارج المدينة الرّومانيّة لمناقشة أمور مدينتهم العامّة ولاتخاذ القرارات المناسبة. ثم استخدم المسيح كلمة “إكليزيّا” ليصف جماعة الإيمان المجتمعة لعبادة الله وتعليم الكلمة المقدّسة.
ماذا عن حكي السّياسة اليوم؟ لقد صار البديل الفعليّ من الحرب التي فيها يَستخدم المتقاتلون السّلاح العسكريّ لقتل خصومهم، فلا سلام بين الذين يتكلّمون السّياسة بل كبرياء ولؤم وافتراء، وتهكّم وتعيير ومماحكات وشتم واحتقار وإساءات، وبغض وغضب وتعنيف وعدائيّة وهدم للعلاقات الطيّبة بين الناس. وفي الوقت عينه، يعجز المتكلّمون في السّياسة عن تقديم ما يُساهم في بناء الآخر وفي تقدّم المجتمع، كما يخفقون في الاستفادة من فكر الآخرين. وهكذا، يتحوّل الحكي في السّياسة من حكي هدفه خير “المدينة” إلى سبب لهدمها وقتل بنيها.
ما الحل؟ هل نقمع النّاس عن حكي السّياسة؟ هل نتوقف عن الكلام في السّياسة؟ بعضهم يظنّ أنّ هذا الأمر هو الحلّ الأسلم لتحاشي الخلافات بين النّاس، وبخاصّة بين الأحبّاء. إلّا أنّ ذلك لا يُعالج المشكلة. والحلّ يتجلّى في فهم الأمور التالية: (1) إنّ السّياسة هي لتدبير شؤون “المدينة”. (2) إنّ الحكي في السّياسة يجب أن يكون إيجابيًّا ومُفيدًا لتقدّم المجتمع. (3) إن الحكي في السّياسة يحتاج الى النّضج الذي يسمح للإنسان بأن يُفيد غيره ويتعلّم منه في آن واحد. (4) إن مَنْ يحكي في السّياسة يجب ألَّا يكسر آداب الحوار وعلاقات المحبّة. (5) إنّ مَنْ يحكي في السّياسة يجب أن يعي أنّ حُريّته في الكلام تنتهي عند حدود كرامة الآخرين. (6) إن مَن يحكي في السّياسة يجب أن يحرص على ألّا يؤذي مشاعر الخالق من خلال إيذائه أخاه الإنسان المخلوق على صورة الله.
أمّا المؤمن بالمسيح، فهو إن حكى في السّياسة فيجب أن ينتبه لأن يكون لسانه وطبعه تحت سلطان الرّوح القدس، من دون أن يسمح لإبليس بأن يُضرِم لسانه من جهنّم فيُوقِد الدّائرة التي يعيش فيها. إنّ حكي السّياسة يجب أن يكون لبنيان السّامعين وللخير العام ولتمجيد المسيح. إن لم يتمكّن المسيحيّ من المحافظة على هذه كلّها، فليصمت، وليكتفِ بالصّلاة والكلام على الربّ. فليس مطلوب من جميع النّاس أن يتكلموا في السّياسة، بل أن يحيوا في مخافة الله ومحبّة الجميع والصّلاة للرّؤساء ليعيشوا حياة مطمئنّة هادئة بكلّ تقوى ووقار (1تي 2: 1-2). إنّ الحكي في السّياسة كثيرًا ما يُسبّب الكراهية وتَوَقُّف الشّهادة للمسيح. وفي هذا المجال، من الجيّد أن نذكر ما قاله الرّسول بولس: “وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُظْهِرُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْخِصَامَ، فَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ عَادَةٌ مِثْلُ هذِهِ، وَلاَ لِكَنَائِسِ اللهِ” (1 كو 11: 16).