”قَدْ عَقَدْنَا عَهْدًا مَعَ الْمَوْتِ، وَصَنَعْنَا مِيثَاقًا مَعَ الْهَاوِيَةِ“ (إشعياء 28: 15).
الغيوم تتلبّد في السماء. العاصفة آتية على المدينة. الدينونة تحوم فوق الرؤوس. وهناك تحت يلهو الناس مطمئنّين إلى أنه لن يصيبهم أي شر. زعماء الأرض أعماهم حُبّ المال. وصار الجميع على منوالهم مولعين بالربح من الكبير إلى الصغير. والقادرون على ضبط الأمر يترنّحون سكارى إلى موائد اتسخت بقيئهم. وفي الوقت عينه، يُحاوط العدو المدينة، فلا ترى أنّها تذبل كإكليل ورد، وتظنّ أنّها لا تزال في عزّ جمالها وقوّتها. وفي الجهة المقابلة، تقف ابنة عمّها المدينة المجاورة، تنتظر سقوطها. وتظنّ أنّها في زوال غريمتها ترتاح. يا لبؤس أحلام الضغينة والحقد بين الأقارب. فالحالم بيوم انتقام من جاره لا يعرف أنّ رأسه هو التالي. فالعدو الآتي من الصحراء لن يُفرّق بينهما. كلّ ما يهمّه هو أن لا يُبقِيَ أحياء. لأنه يُريد أن يأخذ الأرض من دون سكّانها. ويُسأل هل من أحد يعي خطورة الظرف. لكن ما مِن سامع ولا مِن مُريد. ولا مَن يَعلَم ولا من يَفهَم.
أمّا حكماء المدينة فقد “ضلّوا في الرؤيا وقلِقوا في القضاء”. وظنّوا أنّهم بعقدهم عهدًا مع الموت يعفو عنهم. هؤلاء آمنوا “بحربقتهم” السياسيّة، ولم يؤمنوا بأن إله الحياة هو الذي يُنجّيهم. ظنّوا أنّ الهاوية وفيّة بحقّ من يُحالفها. اعتقدوا أنهم بحلفهم مع الأبالسة يتجنّبون شرَّها. نَسَوا، وتناسوا، أنّ جُهنّم لا تُهادَن. وأنّها عند هياج موجها تنقض على الجميع ولا تُميّز بين حليف أو عدو. وأيّ راحة، وأيّ سكون، لحظة الاستحقاق. الغضب آتٍ. الجهل آتٍ. الظلام آتٍ. السّوط آتٍ. شبح الموت آتٍ. فما العمل في هذه الحال؟ هل يُمكن شعب غافٍ أن يقف في وجه ما يُصيبه؟ هل يُمكن قادة باعوا أنفسهم وكذبوا طويلاً أن يتحوّلوا إلى أبطال أسطوريّين يُنقذون أرواح من صدّقهم؟ ومن قال أنّهم في لحظة الحقيقة سيتذكّرون أتباعهم؟ من كذب مرّة كذب مئة مرّة. ومن عاهد ابليس مرّة صار عبده إلى الأبد. خلاص المدينة والشعب لا يأتي من العالم السفليّ. الكذّابون لا يستطيعون أن يكذبوا طويلاً. يأتي وقت لا تسترهم فيه أوراق تينهم المهترئة. وفي الوقت عينه لن يستمر وَهمُ السلامة بتقديم خدماته للمُغفّلين.
وحده المتسربل بالحكمة فكّ مساره عن رجال الهزء والتجأ إلى صخرة ثابتة أرفع منه. هناك فقط الأساس المتين والكريم. ومن هناك فقط، الوتد وقوس القتال الغالب الذي يُخرِج الظالم ويُبعِد الظلمة. “من آمن لا يهرب… بل يقف وينظر بعينيه مجازاة الأشرار”. في تلك المأثرة يقف من يتسلّح بالحقّ والعدل شعبًا منصورًا يفرح بضامن حياته. لا تمرّ الحياة من دون هذا الصراع. ويحه من يخنع ويجبن ويهرب ويخون. الفهم يقضي بالابتعاد عن رجال الهلاك. لا يُقامر أحد في روحه. الحياة والحريّة والكرامة والسلام والمصير أمور ثمينة يُجاهَد في سبيلها وتستحقّ أن يموت الانسان لأجلها. ماذا عن رجال الهزء؟ يضحك كثيرًا من يضحك أخيرًا!