الحبّ يحفظ حياة البشر ليصمدوا في أيّامهم الّتي يمضونها على هذه الأرض. الإنسان بطبعه يجِدُّ في إثر مُحبٍّ يدعم وجوده وطموحه. فحالما يكتشف السّــنيد، يبدأ مشواره.
ما انفكَّ الخليل يسعى إلى مساعدة نظيره، حتّى يتفادى رؤيته وحيدًا حائرًا. وما استطاع إمساك عواطفه أو تقييدها في حضوره، فتراه قد انبرى يبدي اهتمامه حرصًا على إبقائه محصّنًا مِن المشاعر السّلبيّة. كما يشير علم النّفس، فإنّ الإنسان السّويّ هو الّذي يستطيع أن يُقدّم الحبّ ويحظى بمَن يُحبَّه.
ثبّت الرّبّ يسوع أهميّة الحبّ حين أجاب النّاموسيّ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». فلو سادَت المحبّة سلوكيّات البشر، لعمّت الفضائل وانتفَى الشّرّ؛ فمَن سيُخطِّط لإيذاء نفسه؟ أو مَن ذا الّذي سيتمنّى السّوء لحياته المهنيّة أو الاجتماعيّة؟! بل على العكس، سيصبٌّ كلّ اهتمامه على كيفيّة البقاء سعيدًا معافًا.
أحيانًا، يغيِّبُ إدراكنا حقيقة محبّة الله لنا. لذلك، نحتاج إلى ما يُنبّهنا لنتيقّن مِن هذا الواقع. في طفولتي، جذبني حُبُّ الرّبّ حين كنت أستمع بكلّ انتباه إلى قصّة الصّلب. بالفعل، أُسِرَ قلبي بحبّه، فما استطعت إلّا السّجود بتوبةٍ أمامه. ما أروع ذلك الشّـعور عندما تتأكّد أنّك محبوب! فكيف سيبدو الأمر لو أنّ ذلك المـُحِـبّ هو الخالقُ نفسُه؟
بعد عدّة أعوام، وخلال إحدى الأنشطة في كنيستنا، تلقّى كلّ منّا رسالةً ليقرأها بصوتٍ عالٍ لمشاركتها مع الآخرين. لم أصدّق ما كُتِبَ في رسالتي! ها هي رسالة الحبّ تعود إليّ من جديد!
“حبيبي … هناك آلام لا تزال تُفرَض عليك. ولكن تذكّر أنّ آلام هذا الزّمن ليست بشيء مقابل المجد الّذي سوف يتجلّى فيك يوماً. فما رأته عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر ما أعددته من فرح لك لأنّك قرّرت أن تقبل هديّة حبّي لك…” وعندما وصلت إلى هذه العبارة، سكت صوتي وانهمرت الدّموع من عينيّ. لقد علمْتُ أنّني تلقّيت تلك الرّسالة مِن أبي السّماوي هامسًا في قلبي: أنتِ ابنتي المحبوبة. فما عساني أرُدّ للرّبّ الّذي غمرني بفيض حُبّه من خلال تلك الكلمات؟ لقد خصّص لي تلك الفرصة ليرُدَّ نفسي المجروحة.
فما أجمل الاقتداء بالله المحِبّ للإكثار من عمل المحبّة مع القريب! هناك مَن يشعر بالمحبّة من خلال كلام التّشجيع والمديح. وآخر، لا يختبر محبّتك إلّا إذا خصّصت له بعض الوقت. في المقابل، هناك أشخاصٌ لن ينالوا قسطهم من الحبّ إلّا إذا أسديت لهم مساعدةً ما. ومنهم من يحصل على دفعة المحبّة بالعناق أو بواسطة تلقّي الهدايا. متى علِمْت التّواصل مع الآخر بمودّة، لا بُدَّ وأن تبني جسور المحبّة الّتي لن تُهدم.
في الواقع، إنَّ مشاعر المحبّة لا تتأثّر بوقتٍ أو مكان. مهما طالت الأيّام، ولو تحتّم الفراق بالموت، تبقى عواطف الحُبّ محفورة في داخلنا. فيا حبّذا لو أطلقنا تلك المشاعر لقريبنا برسائل مُفعمة بعطر المحبّة فترة مكوثه على الأرض، قبل الفراق بالغياب الّدائم عن الوجود. فما أجملها علاقةً زيّنتْها ألوان الودّ ما دام القريب بجوارنا!