نقلت محطة CNN الأميركية أنّ الزلزال المُرعِب الذي ضرب مناطق غازي عنتاب في تركيا وإدلب وحلب في سوريا فجر يوم الأثنين 6 شباط 2023 تجاوزت قوّته عن 7.8 على مقياس رختر وهو الأعنف والأكثر دمارًا وإهلاكًا في تلك المنطقة من العالم منذ 1939. وقد فاق عدد ضحاياه على 16000 ضحيّة وعشرات آلاف المشرّدين وآلاف المباني المدمّرة وسبّب خسائر بأكثر من 23 مليار دولار على الدّولتين. وللحال ابتدأ الناس يتساءلون لماذا سمح الله به؟
والبعض سارع للقول أنّ دينونة الله نزلت بمن ضربهم الزلزال. وغيرهم نزّه الله عنه. والبعض قال أنّها علامات الأزمنة. لن نُسارع لتبنّي أيّ رأيٍ من هذه. ونتعلّم من يسوع، إذ لم يُناقش أسباب سقوط البرج وموت الأبرياء في سلوام، بل أخذ سامعيه ليستعدّوا للموت ولملاقاة الله بالتوبة طالما لا يعرفون متى يُباغتهم الموت. وقال لهم: “بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ”.
إذًا بعيدًا عن مناقشة أينَ كان الله، ولماذا سمح بالزلزال، وما مسؤوليّته في هذه المآسي، أنا لا أرى الظّرف مناسبًا لمناقشة مسألة وجود الله عند مُصاب كبير كالّذي حصل. عندئذٍ، نكون كمن يسأل بخبثٍ: “أَيْنَ إِلهُكَ؟” إلّا أنّه الوقت المناسب لنسأل ما الّذي فعله الله لنا في أثناء الزلزال؟ وماذا نفعل نحن إن اهتزّت فينا الأرض؟
ماذا يفعل الله لنا في أثناء الزلزال؟
العمر لا يمرّ بدون اختبار الألم العميق وهو قد يأتي من أسباب بشريّة أو طبيعيّة أو جيولوجيّة أو فائقة للطبيعة. أجد نفسي أتعلّم من إرميا النبي الّذي رثا مذلّته مع شعبه عندما حاصر نبوخذنصّر أورشليم ودمّرها وسبى شعبها في العام 587 ق م. وكانت شكوى النبيّ مأساويّة الطابع حتى أنّه وصف حالهم المذلولة كمن شرب الإفنسنتين والعلقم. ومع أنّ إرميا رفع مرثاة حزينة إلّا أنّه يُسمَع فيها شيء من نغم فرح مصبوغ بالأمل. فهناك، في مكان ما في ذاكرته، حضور إلهيّ ثابت لا يقدر أن يتجاهله، يستيقظ فجأةً في وقت الألم، ويقلب الأوضاع ويُعزّي القلب، فيقول: “أُرَدِّدُ هذَا فِي قَلْبِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُو”. فإرميا الذي عرف الرّبّ وعاش معه فترة من حياته، لا يقدر أن ينسى طيب العلاقة معه رغم مآسي الحياة. فهو يعرف أن الله لا يسمح بإفناء شعبه فيعترف برجاء: “إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ”.
صحيحٌ أنّ إرميا رأى في ضربة أورشليم تتميمًا لحكم إلهيّ سمح بتأديب شعبه بقسوة، إلّا أنّ إرميا اعترف أيضًا أنّه بفضل الرّبّ الرحوم بَقِيَ كثيرون منهم أحياء. فالله لا يؤدّب ليُميت بل ليُصحّح، ووسط الغضب والضيق يؤكّد لنا أنّه أب حنون “مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ.” (مرا 3: 21-22).
ماذا نفعل نحن عندما تتزعزع الأرض تحتنا؟
وأمام مشهد ركام الأبنية المتهدّمة التي تتناقله تلفزيونات العالم راودني سؤال لا يُنتسى ورد في المزامير: “إِذَا انْقَلَبَتِ الأَعْمِدَةُ، فَالصِّدِّيقُ مَاذَا يَفْعَلُ؟” هل نتذمّر على الله وننتفض ضدّه؟ هل نشتمه كما فعلت جارة لنا هُرِعَت مرعوبة إلى شرفتها فاقدة لأعصابها صباح هزّة ضربت بيروت في 2 أيار 1983؟ أمّا كاتب المزمور عندما رأى الدمار والأعمدة منقلبة فقال: “عَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ… اَلرَّبُّ فِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ. عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ. أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ.” (مز 11، 1، 3، 4).
وأمام مشاهد الإنقاذ من تحت الركام، وبينما كنت أشاهد فيديو الفتى الّذي سجّله من سجنه تحت الركام سألت نفسي، ماذا لو مررت بهكذا تجربة، واحتُجِزتُ تحت عدد من الطوابق، لا سمح الله، كيف ستكون حالتي وماذا كنت لأفعل وماذا كنت لأقول لإلهي؟
أمّا إرميا فأظهر ثباتًا بموقفه تجاه الرّبّ أمام هول دمار المدينة المقدسة فقال: “نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي”. وكأنّه يقول: الله خياري الثّابت، في أصعب الأيّام حتّى عندما أخسر كلّ ما لي في العالم، حريّتي، نشاطي، بهجتي، أصدقائي، أقاربي، أو حتّى حياتي، سيبقى الرّبّ نصيبي الّذي لا أتركه. وسأبقى أقول: “طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجَّوْنَهُ، لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ”. إنّ صلاح الله للكلّ وينعم به الذين يرجونه والرّجاء به لا يُخزي. فالرجاء كالإيمان، يكون حقيقيًّا عندما يكون بأمور لا تُرى، وإلاّ ليس بعد رجاءً.
وإن كان البعض لا يشعر بوجود الرّبّ ورعايته عندما تُزعزع الأرض من تحتنا إلّا أنّنا مدعوّون لانتظار الرّبّ ونجدته بهدوء وصمت، فالله “لَنَا إِلهُ خَلاَصٍ، وَعِنْدَ الرَّبِّ السَّيِّدِ لِلْمَوْتِ مَخَارِجُ”. نتشجّع بمشاهد هؤلاء المسجونين تحت الأنقاض وقد صمدوا حتّى وصول فرق الإنقاذ إليهم. وستبقى صورة الفتاة الصغيرة الّتي كانت تحمي أخاها الأصغر منها والعالِقَين تحت الركام راسخة في وجداننا نتعلّم منها الحنوّ والإخوّة والتّشجيع والصّبر والصّمود إلى أن يأتي الفرج.
صلاة لفكّ الأسر
وبينما كنت أبحث عن صلاة أرفعها على نيّة هؤلاء الأبرياء العالقين ليفكّ الله أسرهم، وجدت مزمورًا كتبه النّبي داود عندما كان سجين مغارة عَدُلّام فيه يقول: “بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَتَضَرَّعُ… أَخْرِجْ مِنَ الْحَبْسِ نَفْسِي، لِتَحْمِيدِ اسْمِكَ.” (مز 142).
إنّ عبورنا في أتون الألم يُنقّينا فنصير أجمل وأفضل وأكثر لمعانًا، فأفضل المعادن والجواهر تُصنَع تحت المطرقة وفي الأتون. قال أحدهم: ما يتعلّمه الشعراء بالألم، يتعلّمه الناس بالأغاني العذبة التي يكتبها هؤلاء. الله يُريد أن يخطَّ نغمًا سماويًّا في حياتنا ويجعلنا تعزية للناس في ضيقتهم.