قد يكون أشهر تعليم ليسوع عن السياسة في الإنجيل هو: “أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّه.” وصدر هذا التعليم عندما قصد فريسيّون المسيح “ليصطادوه بكلمة” يُقدّمونها إلى الوالي الروماني ليحكم عليه كمنتهك للقانون، أو للسنهدريم (المجلس الأعلى للطائفة اليهوديّة يومذاك)، وكمتجاوز للشريعة. أرسلوا إليه بعض أفراد من حزب الهيرودسيّين يسألونه هل يجوز دفع الجزية لقيصر روما، أو لا؟ يومذاك عرف يسوع خبثهم والمؤامرة التي يحيكونها ضدّه، وأجابهم: “لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَة. فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ قَالُوا لَهُ: لِقَيْصَر. فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّه. فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا” (مت 22: 15-22). وطرح المسيح في إجابته هذه المبادئ التالية:
المؤمن مواطن مُطيع للدولة
هو يعرف واجباته نحوها ولا يسمح لنفسه، كمواطن، بعدم ممارستها، ثم إنّه أمين وملتزم طاعة واجباته الدينيّة، من دون أن يشعر بالذنب إن أطاع الدولة. وعلى المؤمن أن يُدرك أنّ ما تفرضه السلطات هو غير ما تفرضه المؤسّسة الدينيّة، ولا يتوقّع دائمًا الانسجام بينهما. وما يفرضُه القانون المدنيّ غير ما يفرضه القانون الدينيّ، فعلى المؤمن كمواطن تحمّل مسؤوليّته المدنيّة بأمانة تامّة كما يتحمّل مسؤوليته الدينية.
لا يحقّ للمؤمن تقويض سلطة الدولة
لقد آمن يسوع بأنّ سلطة الدولة هي من الله، وعلى المسيحيّين وجميع النّاس احترام النظام العّام، إذ لا يجوز أن يبقى المجتمع من دون سلطة ونظام وحكم ودولة وجيش وشرطة. أمّا الضريبة فتدبير قانونيّ يُعبّر فيه المؤمن المواطن عن مشاركته في تحمّل المسؤوليّة العّامة بدفعه ما يترتّب عليه من المصاريف العامّة للدولة. ولا يجوز للمؤمن أن يتلطّى خلف الشريعة الدينيّة ليتهرّب من طاعة القانون أو لضرب المصلحة العامة. ولا يجوز له أن يُحرّض على كسر القوانين، بل عليه أن يشكّل قدوة لغيره في المواطنة البنّاءة.
يخضع الإنسان للقوانين الموضوعة لخيره
وما دام سلطان “قيصر” المستمدّ من مصادر تشريعيّة أخرى غير الناموس يحفظ حياة النّاس والنظام العّام ويطلب المصلحة العامَّة للجميع، فهو لا يتناقض مع تعليم الله في شأن السلطة المعطاة في الشريعة الإلهيّة. وقد منح الله آدمَ سلطان التشريع والحكم وتنظيم شؤون المجتمع قبل نزول أيّ شريعة دينيّة. وأعطى الله البشر القانون الطبيعي الذي استمرّ عبر العصور في ضمائر النّاس ومؤسّسات الحكم في الدول قبل نزول الشرائع الدينيّة وقبل سنّ القوانين الوضعيّة. أمّا اللافت فهو أن الشريعة الإلهيّة لا تتعارض مع القوانين الطبيعيّة التي يجب أن تتوافق معها أيضًا القوانين الوضعيّة وذلك لخير الإنسان والمجتمع. فالقانون، بالنسبة إلى المسيح، وُضِع لخدمة الانسان وليس العكس.