على الرّغم من كلّ البركات الّتي أعدّها الله للبشر، فإنّنا، ومع إطلالة كلّ يوم، نسمع بمآسٍ جديدة، كفيلة بإيصالنا إلى حافّة اليأس. فهذا هو طفل تتوقّف كليَتاه، ويخضع لعمليّة مستعجلة، ويضطّر بعدها لغَسل الكليَتَين ثلاث مرّات في الأسبوع. وهذه فتاة تتعرّض لحادث خطف واعتداء فتخسر أهمّ ما عندها، وتُصاب بأحزان وأزمات نفسيّة. وتلك منطقة بكاملها تتهجّر وتتعرّض لمجزرة رهيبة كلّ ضحاياها من الأبرياء. وهنا شابّ طيّب يتزوّج فتاة أحلامه، فإذا به يتفاجأ بأنّها تخونه مع آخر. وهناك والدة شابّة تتعذّب من سرطان العظم لتموت تاركة أولادها الثّلاثة. وهنالك صحافيّ يُشغّل سيّارته ليذهب إلى عمله فتنفجر به وتصرعه. وهذه المشكلة ليست محصورة في بلد معيَّن، بل هي مُنتشِرة في العالم كلّه، فحيثما ذهبنا في الأرض وجَدنا شروراً يُعاني منها النّسل البشريّ.
وهذا الواقع يقودنا إلى التّساؤل وإلى طرح الأسئلة: لمَ هذه الشّرور؟ لماذا يسمح الله الخالق والمتسلِّط في مملكة النّاس بالشرّ؟ هل هو عاجز عن ردع الشرّ وإزالته؟ إن كان عاجزاً، فهو إذاً ليس كلّي القدرة، وإن كان قادراً ولم يردَع الشرّ فهو سيّئ النيّة، كما قال “دايفيد هيوم”. وإن لم يكن سيّئ النيّة، فهل هذا يعني أنّه عاجز عن إيقاف الشرّ، أو هو يُريده، أو عنده خطّة مُعيّنة من خلال الشرّ؟ ما نعرفه من الكتاب المقدّس حول الله ومصدر الشرّ هو التّالي:
- قلب الإنسان هو مصدر الشرّ الأخلاقيّ وليس الله. يقول يعقوب: “لا يَقُل أحَدٌ إذا جُرِّبَ: “إنّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ الله”، لأنَّ الله غيرَ مُجَرَّبٍ بالشُّرور، وهوَ لا يُجرِّبُ أحَداً” (يعقوب 1: 13). ويقول الرّبّ يسوع: “لأنّهُ مِنَ الدّاخِل، مِن قُلوبِ النّاس، تَخرُجُ الأَفكارُ الشرّيرَة: زِنىً، فِسقٌ، قَتْلٌ، سِرقَةٌ، طَمَعٌ، خُبثٌ، مَكرٌ، عَهارَةٌ، عَينٌ شِرّيرَةٌ، تَجديفٌ، كِبرِياءُ، جَهلٌ. جَميعُ هَذِه الشّرورِ تَخرُجُ مِن الدّاخِلِ وتُنَجِّسُ الإِنسان” (مرقس 7: 21-23).
- الله مصدر كلّ خير. يؤكّد بولس الرّسول أنّ الله يقضي بالبِرّ (رومية 9: 28)، وهو الّذي خلق العالم وكلّ ما فيه “يُعطي الجميعَ حياةً ونَفْساً وكلّ شيءٍ”، وهو ليس ببعيدٍ عن كلّ واحد من النّاس (أعمال 17: 24 و 26 و27).
- الله يحزن بسبب الشرّ. يوضّح الكتاب المقدّس منذ البداية أنّ الشرّ الّذي يرتكبه الإنسان أو الّذي يُصيبه يُحزِن قلبَ الله (تكوين 6: 6). والله، عندما رأى ما حصل للإنسان عند السّقوط، وعده بخلاص كلّفه دم ابنه والألم الشديد (تكوين 3: 15).
لكن يبقى السّؤال: لماذا يُوجد الشرّ ولماذا يسمح الله به؟ نُريد جواباً يشفي الغليل، يُقنع ويُعزّي. من يدرس الكتاب المقدّس يجد أنّ الله يسمح بالشرّ للأسباب التّالية:
الله يسمح بالشرّ لأنّه يحترم خيار الإنسان
صحيح أنّ الشّرور ليست كلّها من خيار الإنسان؛ فهو لا يختار ألم ابنه أو موت أمّه، لكنْ هناك شرور تنتج من خياراته. فلو لم يكن للإنسان حريّة الخيار بين الجيّد والسيّئ، بين الخير والشرّ، كيف يكون لخياره الخير والرّبّ قيمة ما؟
لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله (تكوين 1: 26)، وضِمن هذه الصّورة تكمُن إرادة الإنسان الحرّة. ولكي يُمارس الإنسان حريّته، أعطاه الله إمكانيّة الخيار بين شجرتَين (تكوين 1: 17). فاختار العِصيان عندما أكل من الشجرة المُحرَّمة، وأخطأ الخيار والهدف. هذه هي الخطيّة الّتي سَقَط فيها الإنسان.
والخطيّة جلَبت العار والخجل والموت على الإنسان، وكان لها مضاعفات عديدة على كافّة الأصعدة الشّخصيّة والعائليّة والصّحيّة والمِهنيّة والمجتمعيّة. من هذه المضاعفات: سِيادة الرّجل على المرأة (تكوين 3: 16)، وأوجاع حوّاء عند الولادة (تكوين 3: 16)، والشّوك أو المصائب الطّبيعيّة (تكوين 3: 18)، والتّعب في العمل (تكوين 3: 17).
هذا كلّه شرّ، لكنّ الله لمْ يخلق الشرّ ولا الخطيّة، بلْ سمَح للإنسان بأن يُمارِس حرّيته. غير أنّ اختيار الإنسان للخطيّة، وعواقب هذا الاختيار، لم يكونا لِيُغيّرا خطّة الله في خلق إنسانٍ حرّ. فالله لا يقدر أن يخلق إنساناً على صورته ومثاله من دون أن يُعطيه حريّة كاملة.
الله يسمح بالخطيّة ليُبيِّن للإنسان استحالة تفادي نتائجها
يظنّ الإنسان أنّ الشرّ يمرّ بلا عِقاب. لكنّ الله يسمح بالشّرور ليُبيِّن للإنسان أنّ للخطيّة أجرة، وأجرتها موت. وهذا ما سبق وأنذر الله به الإنسان في الجنّة (تكوين 2: 17).
يؤكّد بولس الرّسول أنّ ترك الرّبّ هو أساس كلّ الشّرور إذ يقول: “لأنَّ غَضَبَ الله مُعلَنٌ مِنَ السّماءِ على جَميعِ فُجورِ النّاسِ وإِثمِهِم، الّذينَ يَحجِزونَ الحَقَّ بِالإِثمِ … لأنَّهم لمّا عَرَفوا الله لم يُمجِّدوهُ أو يَشكُروهُ كإِلهٍ، بلْ حَمِقوا في أفكارِهِم، وأظْلَمَ قَلبُهُم الغَبيُّ. وبَينَما هُمْ يَزعُمُونَ أنَّهُم حُكَماءُ صَاروا جُهَلاءَ، وأَبدَلوا مَجدَ الله الّذي لا يَفنَى بِشِبهِ صورَةِ الإِنسانِ الّذي يَفنَى … لِذَلِك أَسلَمَهُم الله أيضاً في شَهَواتِ قُلوبِهِم إلى النَّجاسَةِ، لإِهانَةِ أجسادِهِم بَينَ ذَواتِهِم. الّذينَ استَبدَلوا حقَّ الله بِالكَذِب، واتَّقوا وعَبَدوا المَخلوقَ دونَ الخالِقِ، الّذي هوَ مُبارَكٌ إلى الأَبَد. آمين … وكَما لمْ يَستَحسِنوا أنْ يُبقوا الله في مَعرِفَتهِم، أَسلَمَهُم الله إلى ذِهنٍ مَرفوضٍ لِيَفعَلوا ما لا يَليقُ” (رومية 1: 18 و 21-22 و 24-25 و 28).
إنّ رَفْضَ معرفة الله والعمل بموجب إعلانه يقود إلى كلّ الشّرور. ويتحمّل الإنسان تبعة قراره بالابتعاد عن الرّبّ. وهكذا يصير الإنسان بعقله، وفكره، وقوله، وعمله وسلوكه شرّيراً. وهذا يقوده إلى تصرّفات وأفعال شرّيرة في حياته، منها الزّنى والعهارة والنّجاسة والدّعارة وعبادة الأوثان والسّحر والعداوة والخصام والغيرة والسّخط والتّحزّب والشّقاق والبدعة والحسد والقتل والسّكر والبطر، الّتي يُسمّيها الكتاب المقدّس أعمال الجسد (غلاطية 5: 19-20).
الله يسمح بالشرّ ليُنذر الخطاة
ويسمح الخالق بأن تُصاب المجموعات البريئة وغير البريئة بالمصائب والنّكبات، وذلك كإنذار مدوٍّ لكي يعود النّاس إليه. كما أنّه يسمح بالشرّ الطّبيعيّ كالأوبئة، أو الشرّ الأخلاقيّ كالحروب، لتأديب الشّعوب ولإنذار أولاده. يقول النبيّ عاموس “أمْ يُضرَبُ بِالبوقِ في مَدينَةٍ والشَّعبُ لا يَرتَعِد؟ هَلْ تَحدُثُ بَلِيّةٌ في مَدينَةٍ والرّبُّ لمْ يَصْنَعْها؟” (3: 6).
جاء بعض النّاس إلى المسيح يناقشه في سبب حصول الشرّ، وي