يُقال أن “الرّابح يكتب التاريخ”. يحصل هذا في كلّ مرّة تنتهي فيها الحرب فيعاجل المنتصر إلى تخليد إنجازه من خلال أبلسة عدوّه وتبرير عدوانه. ويُدفَن الكثير من الأسرار مع الذين يموتون بالحرب ولا تبقى إلا مدوّنات يسخّرها كاتبوها لإخفاء جرائمهم وتبرئة أفعالهم. ويقسو هؤلاء المجرمون على الضحايا مرتين: مرّة في قتلهم جسديًّا ومرّة في تشويه سمعتهم بعد إفنائهم.
ويدوّن التاريخ أيضًا لصوص وسارقون وقراصنة صادروا ممتلكات غيرهم وانجازاتهم. يتطلّع هؤلاء إلى الحصول على براءة ذمّة أخلاقيّة، فيُكلّفون كتبة مأجورين تجميل صورتهم استباقًا لتسرّب أيّة فضيحة. لا يحتمل هؤلاء إدانة الناس لهم. يسرقون الحقيقة والمال ويخدعون قلوب البسطاء ويزوّرون تاريخاً يُبرّئهم في حياتهم وبعد ذهابهم.
ويهتمّ الوصوليّ أيضاً بكتابة التاريخ. يُريد كتابته لهدف غير مُعلَن يُكَشف بعد حين. وربّما قضت أهدافه بأن ينال جاهًا أو مركزًا أو مالاً أو أن يبنيَ إرثًا يرتكز إليه ليُعظّم نفسه بمجد الآخرين. وغالبًا ما يستهزئ هؤلاء بعقول الناس وبذاكرتهم وبكراماتهم. ولا يعرفون أنّ ما كتبوه عن أنفسهم يزيد من يعرفُهم قناعةً بسقوطهم الأخلاقي وأن الحيلة لا تنطلي إلاّ على البعض.
يخطّ المتآمر والحاقد ومـُحتقِر الآخرين ومن لا تاريخ مُشرّفاً له وكلّ من أُثقِلَ ضميره، التاريخ بدهاء ومكر خطيرَين بهدف ستر عورات وتصغير قامات وتغييبها لضمان طمس حقيقة يخافونها. وهؤلاء بأمسّ الحاجة إلى إنجاز جميل يُشرّفهم، وإلى تظهير هالة مُتَخيَّلَة تُقدّسهم. لا يعرفون أن الكرامة لا تُشترى بالتلفيق وأنّ الحقيقة تُحفظ أبدًا نقيّة في الضمائر الحيّة وتعجز أوراق الكذب عن محوِها.
لكنّه يوجد أيضًا من يكتب التاريخ شغفًا بالحقّ والحقيقة. والتاريخ بخسٌ من دونهما. وعلى من يدوّن التاريخ الصادق أن يمتلك ذهناً مُدرَّباً على تبيان الحقّ وعينين تريان بصفاء عيني نَسرٍ يرقب البسيطة من عُلا. وهناك مؤرخون كبار سطّروا وثائقَ حَفِظت للناس أتعابهم وللحضارة تراثها وعلّموا الأجيال دروس أجيال.
كتب هؤلاء المؤرخون بذاكرة أمينة حفظت أتعاب الافراد والجماعات وبطولاتهم وتضحياتهم وآلامهم لتبقى ذكراها حيّة تعبق كبخور الهياكل. واحترفوا التسجيل وإبراز الحقّ والخير والعِبَر حفظًا لإرث يورثونه كالذهب لمن يحفظه ويغنى به.
البحث في كتابة التاريخ وأصوله وأهدافه مهمّ طالما ابتغى الناس حفظ الذاكرة. ويبقى السؤال، من يكتب التاريخ؟ هل يكتبه الناسخ الهاوي أو ذاك المحترف الذي يعتاش من كتابته؟ وكيف يخرج المـُنتَج خاليًا من “شعطات” الهواية والميول أو من آثار رغبات المـُموِّل أو مصالح المنتصر؟ التأريخ عمل سامٍ يُشبِه عمل الألوهة في حفظ مآثر الناس والعلماء في كتابة تقارير أبحاثهم. إنّه عمل يحتاج إلى معايير عالية وإلى الكثير من التجرّد والنزاهة والترفّع والدقّة والحرفيّة والحرص على الحقّ كما هو.
يبقى أنّ هناك أشخاصاً يصنعون التاريخ بأعمالهم وإنجازاتهم وأفكارهم وأقوالهم وبتأثيرهم على الأجيال من دون أن يهتمّوا بما يُخطّ على ورق يأكله القمل الأبيض ولا يقدر أن يُغيّر شيئًا من واقع التاريخ. وإذ يصدمنا أن نعرف أن ذاكرة الناس عاجزة عن استذكار مئة من حوادث التاريخ المشرقة، يبقى عزاؤنا في أن الله يحفظ تاريخ الناس بجميع خفايا نواياهم وبظاهر أعمالهم. أمّا المـُخيف بذكر الله فهو أنّه لا يقف مُتفرّجًا على التاريخ وحافظًا له، بل يُحاسِب عمّا جرى فيه من تفاصيل وحوادث مفصليّة ظنّ النّاس أنّ الأزمنة تعبُر ولا يذكرها أحد أو يُحاسب عليها.ما أرهب ذاك الحفل عندما يقف الأموات كبارًا وصغارًا ليسمعوا ما سجّله الله في أسفاره عن أعمالهم.من تُرى يستطيع الوقوف يومها؟