قصد بعض اليهود اليونانيّين فِيلبُّس، أحد تلاميذ المسيح، وسألوه قائلين: “يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع” (يوحنا 12: 21). رغب هؤلاء القوم الغرباء عن أورشليم في رؤية من سمعوا عنه كثيرًا، وعجز النّاس عن الاجابة الحاسمة في من يكون ذاك الناصريّ! إلاّ أن السؤال المفتاح المطروح يومها فهو: “مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟” (يوحنا 12: 34). لم يعرف كثيرون يومها من يكون. لكنّ يسوع كشف عن هويته تدريجيًّا وبطرق متنوعة. ويتطلّب الأمر في الواقع فترة ليتعرّف إلى حقيقة يسوع. حتّى تلميذه فِيلبُّس لم يعرفه في البداية حقّ المعرفة، وسأله في ذات يوم: “يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا.” فأجابه يسوع: “أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلبُّس! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ.” (يوحنّا 14: 8-11).
الشوق لمخلّص العالم
وإلى فِيلبُّس ذاك، جاء اليونانيّون في العيد طالبين: “نريد أن نرى يسوع”. ونجد في طلبهم مدى اشتياقهم لرؤية من شغل عقول الناس وألبابها. ولا شك أنهم سمعوا عنه من أعدائه ومن أصدقائه. غير أنّهم أرادوا أن يعرفوه مباشرة وشخصيًّا. لم يكتفوا بالفلسفة التي ربوا عليها وتشعّبت حتى باتت لها مدارسها الكثيرة في اليونان. فقد جرّبوا الفلاسفة الواحد تلو الآخر، والمعلّمين الواحد تلو الآخر. ونظر اليونانيّون ومن بعدهم الرومان إلى قادتهم العسكريّين والأباطرة الّذين صنعوا انتصارات تاريخيّة كمُخلّصين. ولازم اللقب “مخلّص” “Soter” كلّاً من بعض الآلهة والقادة كيوليوس قيصر الذي سُمّي “المخلّص وفاعل الخير”. كما عُثر على تماثيل أغسطوس قيصر لوحات تحمل لقبه: “مخلّص العالم”، وفي قراءة أخرى قيل عنه: “الإله الحافظ والمـُخلّص للجنس البشريّ بأكمله”. لكن تلك المجموعة من اليونانيين لم تَقتنعْ بهؤلاء “المخلّصين” مهما اتُخِذ الناس بهم. وربّما كان هؤلاء اليونانيّون من اليهود الذين عاشوا في أنطاكية الهلّينيّة، ولم تُشبعهم محدوديّة الناموس ولا طقوس الأجداد. ولم يشعروا بعدما سمعوا رجال الدين والكتبة والفريسيين في المدينة المقدسة أنهم شبعوا منهم أيضًا. فالإنسان يتطلّع إلى ما هو أعمق وأسمى. قالوا نُريد أن نذهب إلى الحقيقة المطلقة. ولا بد من وجود حق مطلق. وهذا الحق هو في الله. ولأنهم ربوا على الفلسفة اليونانية وسمعوا صرخة سقراط في القديم: “ليت أحدًا، إنسانًا كان أم إلهًا، يقوم ويُرينا الله”، ولأنه يُحتمل أنّهم أن اطلعوا على زردشت الذي قال أيضًا: “الله لن يُعرَف حتى يظهر بالجسد.” أمّا وهم قد درسوا قصة العهد والوعد بمجيء المخلّص في اعلان الله للأجداد، فشعروا بشيء مُميّز في يسوع. وأخذوا يتساءلون هل يمكن أنه الموعود به أو لا؟ وأحبّوا أن يتأكّدوا منه مباشرة فيمن يكون. لذا طلبوا: “نُريد أن نرى يسوع”.
يسوع فقط
يقول شارل مالك: “نتكلّم عن شيء اسمه المسيحيّة ولا نتكلّم عن يسوع المسيح. نتكلّم عن لمبادئ المسيحيّة، عن التعاليم المسيحيّة، عن القيم المسيحيّة، عن المجتمع المسيحيّ، عن الروح المسيحيّة، نتكلّم عن كلّ شيء إلا عن شخص يسوع المسيح.” أما هؤلاء اليونانيون الغرباء فلم يُريدوا أن يغرقوا في كلّ هذه، بل طلبوا أن يروا شخص المسيح دون سواه. وقد عرفوا أنّه الأفضل لعيونهم والأفضل لأذهانهم والأفضل لحياتهم ولحياة أولادهم من بعدهم. راجعوا أفكارهم ومعتقداتهم واستنتجوا أنّه ليس سوى يسوع. فهو شمس البرّ. وهو نور الحق. وهو نبع الحياة. وهو الله المخلّص، وهذا معنى الكلمة “يسوع”. وهم بطلبهم: نُريد أن نرى يسوع، إنما يقولون “نريد أن نرى الله المخلّص”. وكان لهم ما أرادوه. ولا يطلب أيّ أحدٍ رؤية يسوع ويُردُّ خائبًا. فمن أراد أن يرى يسوع عليه أن يطلبه ويطلب رؤيته مباشرة. وعليه، عندما يراه، أن يسأله مع شاول الطرسوسي: “من أنت يا سيّد؟” وكان لهؤلاء ما طلبوه. وهذا ما أراده المسيح في مجيئه إلى أرضنا: أن يعلن لنا الله فنعرفه فيه.
ذات مرّة سأل المسيح تلاميذه سؤالين: (1) مَنْ يَقُولُ النّاس إِنِّي أَنَا ابن الانسان؟ (2) وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ يومها “أَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَي”. فمدحه يسوع قائلاً: “طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.” (متى 16: 13-20). هذا هو الاعلان الإلهي الأهم وهذه هي الفلسفة الحقيقية. ولا يترك المسيح أحدًا مُخلِصًا في سعيه ولا يقوده ليعرفه. فـــــَ”كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ … َيُؤْمِنُ بِهِ” (يوحنا 6: 40).
وقد يُشكّك أحدنا بالمسيح. كما حصل مع يوحنا المعمدان في لحظة شدّته في السجن. فيسأل: “أأنت هو أم ننتظر آخر؟” إلاّ أن المسيح تعامل مع ضعف يوحنا وقال لمرسلَيه: “اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِي” (متى 11: 3-6).
والآن ماذا نفعل؟
ونسأل: من هو يسوع الذي طلبوا أن يروه؟ لم تسلم الجماعات المسيحية في قرون لاحقة من الخلافات عند الاجابة. وتولّدت مشادات عدّة في القرون الأولى حول شخص يسوع. وحتى نحن قد نجاوب أجوبة متعدّدة منها ما هو صحيح ومنها ما هو غريب عن يسوع. وأحيانًا نُجيب ما علق بأذهاننا من طفولتنا فتأتي الأجوبة مبسّطة وغير دقيقة في آن. ماذا نعمل في هذه الحال؟ ولا خيار لمن يريد أن يعرف حقيقة شخص المسيح سوى الذهاب إلى شهادته عن نفسه، وإلى شهادة الّذين عاصروه مباشرة من دون إهمال تفحّص النبوّات الّتي قيلت فيه قبل مئات السنين، وتحقّقت بحذافيرها.
يبقى سؤال يدور في ذهن القارئ المعاصر: هل يُناسب المسيح أيامنا؟ وهل يناسب تعليمه ظروفنا؟ كيف لنا أن نسمع له وتعليم من يتكلّم باسمه لا يُخاطبنا في معظم الأحيان؟ ويقفز البعض مباشرة إلى الجواب: الأحوال تطوّرت، ولم نعد في تلك الأيام البائدة. وهكذا يُغفِل الانسان المعاصر التعرّف إلى يسوع فيخسره. الحكمة تقول أنّه في سبيل التعرّف إلى يسوع نقصد سكة قطار تبدأ أولاً عند محطّة الاعلان الالهي الذي يقودنا إلى محطة الاستنارة الروحية والذهنية حيث يولد الايمان والمعرفة المدعومة بالاختبار الشخصي الذي يقود في النهاية إلى اليقين بالحقيقة المطلقة. لذا من غير المقبول أن يكون أحدنا غير مؤمن. علينا أن نبحث ونتعرّف على المسيح. ويبقى علينا، بعد أن تتعرّف إليه، أن نأخذ منه موقفًا.
سأل بيلاطس بعد أن التقى يسوع وسمعه: “فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟” (متى 27: 22). وهذا ما تُفترض بنا الإجابة عليه اليوم. وماذا نفعل بالرجل. ما هو موقفنا منه. أجاب اليهود: “فلِيُصْلَبْ!”. ونحن ماذا نقول؟ هل ننضم إلى اليهود أو نقول مع اليونانيين: “نُريد أن نرى يسوع؟” فيُعرّفنا بنفسه. وبعدها نُسلّم إرادتنا له ونقول مع بولس: “يا ربّ ماذا تُريدني أن أفعل؟”