يختلف المؤمنون بسبب هذا السّؤال. فالّذين يرفضون التّدخّل في السّياسة يظهر أنّ عندهم حججًا جليلة، أقلّها أهميّة الوقوف على الحياد ليتمكّن المؤمن من أن يُحبّ الجميع ويخدمهم من دون تحزّب، بالإضافة إلى أنّ السّياسة قذرة وليست للأتقياء! أمام هذا الكلام الوجدانيّ، يقف الفريق الثّاني حائرًا ماذا يقول. فمهما قال لن يَفهَم موقفه مَن لا يعرف جوهر السّياسة وما هو الرّأي الإلهيّ فيها. وأكون صائبًا في قولي إنّ الّذين ينخرطون في السّياسة ليسوا جميعهم مدركين لمعانيها السّامية. فكثيرون منهم يندفعون إليها طلبًا للاعتبار والسّلطة ولمصلحة ما. قليلون يفهمون الفرق بين أن يعمل الإنسان في السّياسة لأجل بريقها وأن يعمل فيها بإخلاص وبإرشاد إلهيّ واضح لأجل خدمة الآخر. مَن يعمل في الشأن العامّ من دون دعوة خاصّة له، يذهب إليه مُقادًا من رغباته ومصالحه، فلا يتميّز عن سائر الانتهازيّين.
وماذا عن الذّي يدّعي أنّه مختار من الله للعمل السّياسيّ؟ مَن يؤكّد دعوته؟ أوَلَم يَستخدِمْ هذا الادّعاء في التّاريخ مجرمون ولصوص، سريعًا ما فُضِح أمرهم وجاءت أعمالهم الشّنيعة بالعار على اسم الله! ومن جهة أخرى، نرى أنّ حقل السّياسة مليء بالعثرات الكثيرة الّتي يضعها “إله هذا الدّهر” أمام مَن يدخله. وقد جرّب الشّيطان يسوع، عند بداية خدمته العامّة، فأغراه بإعطائه جميع ممالك العالم ومجدها إن سجد له (مت 4: 8-9). إلّا أنّ المخلِّص البّارّ لم يسقط في هذه التّجربة الّتي قلّما ينجو منها مَن يدخل ميدان المملكة الأرضيّة. العاملون في الشّأن العامّ، على جميع مراتبهم، إن لم ينتبهوا يقعوا في فخّ إبليس وينحنوا له ويصيروا عبيدًا له. فنرى أنّ السّياسيّين هم من أكثر الّذين يتعرّضون لإساءة استخدام السّلطة، وللسّرقة وقبول الرّشوة، والكذب وتغطية المرتكبين، وللسّقوط في الخطايا الجنسيّة.
قد يفيد أن يتعلّم المؤمن، الّذي يُريد أن يدخل “السّاحة العامّة”، من يسوع الملك أن يكون قدّيسًا وشاهدًا للحقّ ومحاربًا للفساد ونصيرًا للفقراء والعمّال والأرامل والأيتام. لكن، إن كان دخوله إلى عالم السّياسة سيُسبّب له السّقوط في الخطايا وتحريك غرائزه العنفيّة ضدّ الآخرين، فمن الأفضل له أن ينسحب منها حفظًا لنفسه ولغيره ولشهادة المسيح. أعترِف بأنّ قلّة هم القادرون على أن يحفظوا أنفسهم من سلوك انحداريّ كهذا، لذا لا أشجّع أحدًا على دخول عالم السّياسة، ما لم يتحلّ بالاستعداد لبذل نفسه عن الآخرين، وبالقدرة على حفظ نفسه من تجارب غلبت كثيرين في التّاريخ.
ويبقى السّؤال: كيف يعرف المؤمن أنّه مختار من الله لخدمة الآخر والصّالح العامّ؟ إنّ المُخلِص لا يدخل مضمارًا إنْ لم يطلب: “لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ” (مت 6: 10). فإن وجد نفسه مُثقَلًا في خدمة الآخرين والمجتمع، وخبرته تُصقَل بالمفاهيم القانونيّة ومبادئ الحكم الرّشيد والعمل بموجبها لإحقاق الخير العامّ، تأكّد من دعوته وسلك فيها (مت 25: 21؛ أف 2: 10). أمّا إن وجد أنّه منقاد للسّياسة ولممارسة هوايات الكلام والظّهور والسّلطة، فلينأ بنفسه عنها، لأنّه لن يستطيع أن يكون أفضل من الّذين خرّبوا هذه الأرض. من الجيّد للّذين ليس عندهم دعوة للعمل السّياسيّ أن يبقوا بعيدين عنها، مُكتفين بأدوارهم المعطاة لهم في الحياة.