كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن الفساد وانعدام الضّمير المهنيّ في معظم القطاعات في بلادنا. ونستغرب إذا مرّ يوم لم نسمع فيه بفضيحةٍ ما أو بانحدارٍ أخلاقيّ معيّن. لكن، أن يطرق الفساد باب مهنة التعليم، وهي أسمى المهن كونها رسالة تربويّة، فهو مستهجنٌ جدًّا.
الضمير المهنيّ
يحرص الإنسان على أداء واجبات مهنته بدقّةٍ وعنايةٍ واستقامةٍ بسبب ضميره المهنيّ. فيقاوم المغريات والرّشاوى مقابل غضّ النّظر عن خطأ أو إهمالٍ ما في العمل. امتلاكه فرض لازمٌ على كلّ من يمارس مهنة. وهو مثل الكائن الحيّ يولد ويكبر وينمو ويتألّق، أو يختنق ويموت في داخل الإنسان.
عملت في حقل التّعليم والإدارة التربويّة نيّفًا وخمسة وثلاثين عامًا. واجهت خلالها أشدّ أنواع الضّغوطات وأصعبها لإسكات صوت الضّمير المهنيّ في داخلي. سبّبت لي هذه التّجارب الحزن والاكتئاب، وأحياناً الأرق.
كيف يُغضّ الطرْف مثلاً عن أداء منسّقٍ لمادّة معينة يتلقّى سرًّا راتبًا شهريًّا من وكالة كتب، لقاء اعتماده كتبًا غير مناسبة وغير صالحة، ضارباً عرض الحائط مصلحة التلامذة المؤتمن عليها؟ وكيف يُتعامل مع معلمة غير جديرة بالثّقة، تسرّب مضمون الامتحانات لينال بعض من تلامذتها نتائج مميّزة مقابل حصولها على بدلٍ مادّي؟ وثمّة أستاذٌ ذكيّ يعتمد مبدأ التشدّد المفرط والظّلم في تقييم تلامذته، فيحثّهم على الالتحاق بالمعهد المسائيّ الخاصّ به ليحقّق أرباحًا طائلة. ناهيك عما يحصل في دهاليز المكاتب من بيع لإفادات وعلامات لا تمت للحقيقة بصلة.
ثواب وعقاب
قد تنجح الأساليب غير السويّة لفترة من الزّمن، وقد يكسب الجاني مالًا يتمتّع به وقتيًّا. ولكن سرعان ما تنكشف الطرق الملتوية وينقلب السّحر على السّاحر، وينتهي به الأمر إلى الاندثار. أمّا المرّبي الّذي يحترم مهنته ويؤدّي رسالته بأمانة، فيكسب ثقة تلامذته وذويهم والمجتمع المحيط به ومن ثم المجتمع الأكبر. ما أروع مشهدَ خرّيجٍ التقى أستاذه صدفة فرفع قبّعته احترامًا وإجلالًا وما أسماه!
نتعلّم مع مرور الزّمن أنّ الإصغاء لصوت الضّمير هو إصغاء لصوت الله يعلو فوق صوت الرّأي العام مهما ارتفع. قد نتعرّض للتنمّر والازدراء بسبب الحرص على أداء واجبنا المهنيّ بشكلٍ كامل. وقد نشعر بالوحدة أحيانًا لأننا لا نشبه الآخرين في زمن كثر فيه الفاسدون. لكن علينا أن نتذكّر أننا نعيش في زمان غربةٍ لن يدوم طويلاً. سيأتي اليوم الّذي فيه نسمع الصّوت الشجيّ يقول، “نعماً أيّها العبد الصالح والأمين. كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير. ادخل الى فرح سيّدك”.