أُطلق لقب “مسيحيين” على تلاميذ المسيح لأوّل مرّة في التّاريخ في مدينة انطاكية بعد عشرة أعوام تقريباً على صعود يسوع إلى السّماء. كان الحدث مميّزًا على غرار الأفعال الّتي قسمت تاريخ العالم إلى جزئين مختلفين. نقول على سبيل المثال في التّقويم العالمي، ما قبل ميلاد المسيح وما بعده؛ ونشير في تاريخ الكنيسة إلى ما قبل يوم الخمسين وما بعده. من يقرأ سفر أعمال الرسل يلاحظ أن العدد السّادس والعشرين من الاصحاح الحادي عشر هو من هذا النوع من الأحداث. انه انطلاقة جديدة ومختلفة لشعب الكنيسة. يشير هذا المقال إلى معنى التّعبير “مسيحي” كما روّج إليه الإنطاكيون، وإلى تطوّره لغويًّا، وكيف فهمه المسيحيّون الأوائل.
من دعاهم “مسيحيين”؟
رفض اليهود يسوع المسيح. قاوموا بشدّة الفكرة أنه “المسيّا” المنتظَر. فالتّسمية لم تأتِ منهم بكلّ تأكيد! وتلاميذ المسيح لم يستخدموا التعبير ولا مرّة واحدة على صفحات العهد الجديد. كانوا ينادون بالإخوة ، أو القديسين، أو المختارين، أو تلاميذ الرب. فمن أشاع إذاً هذا الاسم؟
انهم مواطنو أنطاكية الشّعب السّاخر والسّفيه ومطلق الألقاب العشوائية. أهل أنطاكية الوثنيّون هم الّذين دعوا تلاميذ المسيح باللّقب اللاذع “مسيحيين”للتّهكم والازدراء. لكنّ المسيحيين نشروا الاسم في كلّ العالم، وبأعمالهم المجيدة غيّروا معنى التهكّم إلى الحبّ والأمانة والشّجاعة.
كان لمدينة أنطاكية مكانة مرموقة في الامبراطورية الرّومانيّة وذاعت شهرتها اقتصادياً وثقافيًّا ودينيًّا وترفيهيًّا. في هذه المدينة كرز برنابا وبولس بالإنجيل وعلّما عن المسيح. رافقتهما يد الرب بقوّة ملحوظة فآمن”جمع غفير” فريد في نوعه وتنوّعه وتشكيله. وعندما رأى العالم، لأوّل مرة، هذا النّوع من الخليط الّذي جمع اليهود والأمم في تعليم واحد، ودين واحد، وعبادة واحدة، وخدمة واحدة، لشخص واحد هو المسيح، دُهشوا و”دُعي التّلاميذ مسحيين في أنطاكية أوّلًا.”
حتّى تلك اللّحظة، تعامل اليهود والرّومان مع المسيحيين على أساس أنهم طائفة يهوديّة كالفرّيسيين والصدّوقيين والغيّورين. ما حدث في انطاكية كان شيئا مميّزا. لم يكن المهتدون الجدد يهودًا في الأصل، ولم يمارسوا الطّقوس اليهوديّة ولا العوائد في خلفيّتهم الدينية. كانوا أممًا صرفًا، ووثنييّن يعبدون آلهة اليونان. القاسم المشترك الوحيد بينهم وبين أتباع المسيح من الخلفيّة اليهوديّة، أنهم أعطوا قلوبهم للمسيح فقبلوه مخلِّصًا وربًّا على حياتهم.
ماذا تعني كلمة “مسيحيين”؟
الاسم في اليونانية “Christianos” مركّب من لفظتين، اسم المسيح واللّاحقة”ianos”،المأخوذة من اللّاتينية ويُختم بها بعض الكلمات. استخدمت هذه اللاحقة في الاصل لتشير الى عبد في بيت كبير. فالاسم “سيزاريانوس” يشير الى رجل ينتمي الى بيت القيصر ليس كإبن بل كعبد. هكذا يشير اللقب”كريستيانوس”، إلى إنسان وضع نفسه في تصرّف المسيح كخادم له. وكثيرًا ما وصف الرّسول بولس نفسه “عبد يسوع المسيح”.
تطوّر معنى هذه اللّاحقة مع الوقت. كلّ لغة تطوّر تعابيرها ومعاني استخداماتها. وصارت تشير إلى مَن يتبع حزباً مهمّاً أو شخصًا قياديًّا كبيرًا. مثلا “Herodianos” هو شخص يتبع الملك هيرودس، و”Aristotilianos”، يتبع الفيلسوف الكبير أرسطو. وهكذا طُبِّقت الكلمة “كريستيانوس” على أتباع وتلاميذ الرّب يسوع المسيح القائد الأعظم.
يستخدم الطبيب لوقا في أعمال الرسل 11: 26 العبارة بمعنى ثالث. فالفعل[U1] “دُعي التلاميذ مسيحيين” يشير إلى عمل إنسان ما. الخيّاط هو من يعمل في مجال الخياطة، والنّجار من يشتغل في النّجارة، والفرّان في الفرن. دُعي التّلاميذ “مسيحيين” لأنّ عملهم وشغلهم الشّاغل هو شؤون المسيح.
شاهد النّاس جماعة مكرّسة للمسيح، تعبده وتخدمه وتتبعه وتنشر إنجيله، وكأنّها متخصَّصة في المسيح، فقالوا عنهم هؤلاء هم عبيد المسيح، وأتباع المسيح، ويعملون للمسيح، إنّهم مسيحيّون.
من يكون “المسيحيون”؟
يظهر التّعبير “مسيحي” ثلاث مرات على صفحات العهد الجديد، أعمال الرسل 11: 26، و26: 28، و1بطرس 4: 16.من يدرس هذه المقاطع بإمعان يدرك بأنّ المسيحي هو من يؤمن بالمسيح فيتخلّى عن حياته الوثنيّة السّابقة، ويرجع إلى الرّب تائبًا عن خطاياه، ويجتهد بالتّالي ليثبت فيه بعزم القلب. كان سكّان أنطاكية متعبّدين للآلهة الوثنيّة وكانوا أتباعًا للفلاسفة، ولم تكن لهم قيم أخلاقيّة عالية. فتابوا عنها وقبلوا يسوع مخلِّصا لهم. ثم تحلّقوا حول قادتهم في الكنيسة ليتعلّموا أصول الإيمان المسيحي بخضوع وقابليّة للتعلّم. حين يقول انسان: أنا مؤمن! لكنّي لا أذهب إلى الكنيسة؛ يكون كلامه عبثيًّا وعن جهل. من يتبع المسيح بتصميم قلبي وعزم ثابت هو إنسان يريد أن يتواجد في الكنيسة مع شعب الرّب ويرغب في الاستماع إلى شرح الإنجيل المقدّس. فَهِمَ الملك أغريباس هذه المعاني وهو يستمع إلى مرافعة بولس فأجابه: أنت على وشك أن تقنعني بأن أصير مسيحيًّا.
انتصر الإسكندر المقدوني العظيم على كلّ العالم المتمدّن في أيّامه تقريبًا. شرع بقيادة جنده في حروب التوسّع وهو شاب صغير له من العمر ثلاثة وعشرين ربيعًا. اكتشف بعد مدّة منا لزّمن أنّ فردًا من جنوده ضعيف وجبان، يشيع روح الخوف بين زملائه في الصّف. سأل عنه، وعرف انه سُمّي “إسكندر” تيمّنًا به. فدعاه إليه، ولمّا حضر سأله، “هل اسمك اسكندر؟” أجاب الجنديّ بفخر،”نعم يا سيّدي”. فتابع القائد: “وقد سمّاك والداك على إسمي أنا؟” فأجاب بزهو،”نعم يا سيّدي”. هنا نظر القائد إلى عينيه وقال بحزم،”إذًا إما تصبح جنديًّا شجاعًا وإما تغيّر اسمك!”لو كان يسوع يجتمع “بالمسيحيين” اليوم، كما اجتمع الاسكندر بهذا الجندي، ويسألهم عن اسمهم الّذي يحملونه تيمّنًا به، بماذا سيجاوبونه يا تُرى؟
المسيحي إنسان يتخلّى عن أمور العالم ويجد غفران خطاياه ورجاءه بالحياة الأبدية في المسيح يسوع. وهو من ينضمّ إلى شعب الرّب، أي الكنيسة، ويجتمع معهم للصّلاة، والعبادة، ودرس الكلمة. وهو أيضًا من يجلب الإكرام، وليس العار على اسم المسيح، ويحمل سماته ولو عيّره النّاس من أجلها. يعرف المسيحيّ أيضًا أنّه دعي لا ليؤمن بيسوع فقط، بل ليتألم أيضًا من أجل اسمه. “مسيحيٌّ”، لقب يستحقّه ويفتخر به من يتبع المسيح كلّ يوم، حاملاً صليبه، ناكرّا ذاته، عاملاً مرضاته.