ترك الله الحريّة للإنسان، فتراه يختار ما يريد، ويزيّن حياته بما يشاء. لكن، ما عَلِم يومًا أنّه يُبرم الحكم على نفسه بنفسه. لقد أضحى هو الحاكم والمدّعي والجاني في آنٍ واحد. فهل يا تُرى سيفطن أنّه هو المحكوم من نفسه؟
للأسف، قلّما يُدرك الكائن الحيّ هذا الواقع. فبينما يخال نفسه مستمتعًا بما حقّقه، يجد نفسه مسجونًا داخل أسوار مدينة قد أنشأها بقراراته. يا للعجب، كيف ينتفض على القضاء وهو ما أعار أهميّة لنتائج صُنعه؟
لا يمكنني أن أنسى المثل الّذي قدّمه الرّبّ يسوع عن الغني الّذي اختار ما اشتهته عيناه، مغيّبًا عن ذهنه ما هو الأهمّ لحياته، ففاجأه الموت وهو غير مستعد. لم يذكر يومًا وجوب السّعي لحياته الأبديّة، وهي الأثمن. لذلك، يصدر الحكم عليه. قال له الله: “يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟” يا لهول هذه الصّدمة! بالفعل، لا أحد يعلم متى ينطلق من هذه الدّنيا؛ ولكن، الإنسان الفَطِن يبقى مستعِدًّا.
وعلاوةً على ذلك، فإنَّ الإنسان هو دائمًا صاحب القرار وراسمٌ درب أيّامه. فبينما يسترسل الغافل في حياته منتقيًا ما طاب له، يُمسي بموقف حرج أمام نفسه حينما يُدرك ما وصل إليه. ففي طريقه في هذا العالم، يجب أن يُحسِن الاختيار ليحصل على أفضل نهاية للمشوار. يا لغرابة سحر المال! كم أعمى محبّيه! فلطالما شرد الذّهن عن درب التّبرير والتّحرير، وتوغّل في عُقَد خيوط ما لها نهاية. إنّه شرك الرّبح القاتل.
وأمام نتائج الأفعال، تجري المحاكمة. ورُبَّ قائلٍ، لماذا لم يتدخّل الله ويمنعني من الانحدار نحو السّوء؟ لماذا لم يخترني ابنًا له؟ وبالتّالي، يتساءل السّامع: هل يخال نفسه دُميةً يحرّكها الله كيفما شاء؟ هل الله ظالم حتّى يحجب وجهه عن مُقَيَّدٍ يصرخ إليه تائبًا؟ حاشا! بل يفتح له المجال طالما في أنفه نسمة حياة. ففي الحقيقة، هذا المخلوق لم يعطِ أهميّة لوجود الرّبّ ضمن دائرة حياته ولم يطلبه عندما كان حيًّا على هذه الأرض. ولا عجب، فعندما يسدل السّتار في نهاية المسرحيّة، لن توجد فرصة لإعادة أيّ مشهدٍ سقط سهوًا.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ المزارع يعلم حينما يُلقي في الأرض بذار الفول سيحصل على شتول الفول. أستذكر طرفة حصلت مع أحد أصدقاء الحيّ أيّام الطفولة. أقنع “غالب” أحد الأولاد بأنّه إن قام بتقديم الخبز والماء للحلوى ستتكاثر. فَرِح هذا الولد المسكين الّذي كان يحبّ الحلوى ولا يريد أن يتكبّد العناء للحصول عليها. فأسرع وفعل كما وجّهه صديقه. لم يكن في الحسبان ما أوقع نفسه به: قصاص أمّه الّتي أثير جنونها حين شاهدت قوافل النّمل متراصّةً مجذوبةً برائحة الحلوى. فاختلط بكاء الصّغير بين وجعٍ من الجلدات وقهرٍ على حلمه الّذي لم يبصر النّور.
بالفعل، كلّ إنسان يختار ما يحلو له من أفعال، وبالمقابل، سيكون المسؤول الأوّل عن نتائجها التي لا يستطيع أن يُكيّفها حسب مبتغاه. مع أنّ الله يريد أن يخلص جميع النّاس، إلّا أنّ القرار تُرك للإنسان، ولن ينجو بأساليب الهروب متّهمًا القاصي والدّاني، وهو قابع في حبسِ إرادته. فحذارِ مِن التّهاون والاستخفاف بالحياة!