“ولِمَجدي خَلَقتُهُ وجَبَلتُهُ وصَنَعتُهُ… هذا الشَّعبُ جَبَلتُهُ لِنَفسي. يُحدِّثُ بتَسبيحي” (إشعياء 43: 7 و 21).
الاجابة عن هذا السؤال حيَّرت المؤمنين والمفكّرين عبر العصور. فجاء الجواب المُقنع في الكلمة الإلهيّة، وهو أنّ الله خلق الإنسان لمجده، إذْ لا بدّ من أن يكون لأعمال الله هدف، وإلاّ لما وجد الرّبّ أنّ كلّ ما عمله حسن. فالعشوائيّة في الأعمال لا تخلق أمورًا حسنة أو رائعة الجمال. يقول الوحي في سفر الرّؤيا: “أنتَ مُستَحِقٌّ أيُّها الرّبُّ أنْ تأخذَ المجدَ والكَرامةَ والقُدرَةَ، لأنّكَ أنتَ خَلَقتَ كُلَّ الأشياءِ، وهيَ بإرادَتِكَ كائنةٌ وخُلِقَت” (4: 11). لقد خلق الله الإنسان بإرادته لهدف سامٍ يفوق الإنسان ويتجاوزه. فَما هو هذا الهدف؟ يُجيب سفر إشعياء النّبيّ عن هذا السّؤال، معتبرًا أنّ الله قد خلق الإنسان لمجده، “ولمجدي خَلَقتُهُ وجَبَلتُهُ وصَنَعتُهُ” (إشعياء 43: 7). والحقّ يُقال، إنّه ليس الإنسان وحده مخلوقًا لمجد الله بل كلّ الخليقة أيضًا: “السّماواتُ تُحَدِّثُ بِمَجدِ اللهِ، والفَلَكُ يُخبِرُ بعَمَلِ يدَيهِ” (مزمور 19: 1). هكذا، يكون الإنسان والخليقة معًا لمجد الله؛ فالخلق ليس عبثيًّا ومن دون هدف.
إنّ معرفة الهدف من وجودنا تُساعدنا كثيرًا على تبنّي مفاهيم سامية في الحياة، وعلى جعل نوعيّة حياتنا وأعمالنا رفيعة، تليق بنا نحن الّذين خُلِقنا لنُمجِّد الله في حياتنا. فالإنسان لا يعيش لِذاته، بل للّذي خلقه، كما يقول بولس الرّسول: “لأنّنا إنْ عِشنا فللرّبِّ نَعيشُ، وإن مُتنا فللرَبِّ نَموتُ. فإنْ عِشنا وإنْ مُتنا فللرَّبِّ نَحنُ” (رومية 14: 8).
وهكذا، نخلص إلى القول: إنّ الهدف من خلق الإنسان هو تمجيد الله، وذلك يحصل من خلال الأمور التّالية:
أوّلاً: العبادة
نقرأ في إشعياء: “هذا الشّعبُ جَبَلتُهُ لِنَفسي. يُحدِّثُ بِتَسبيحي” (إشعياء 43: 21). الله خلق آدم وحوّاء في الجنّة ليكونا في شركة معه، وذلك لأنّه نَفَخ فيهما نسمة الحياة: “ونَفَخَ في أنْفهِ نَسَمةَ حَياة”. إذًا، من الطّبيعيّ أن يكون آدم على علاقة روحيّة بمَن أحياه؛ فالعبادة ليست فقط لأنّ آدم مخلوق الله وصُنع يديه، ولأنّه أدنى، وعليه بالتّالي أن يسجد لِمَن هو أعلى وأقوى منه، بلْ لأنّها تصوّر علاقة تلقائيّة طبيعيّة بين المُحيِي والمُحيَا. فالإنسان يستمدّ حياته من الله، وبه يتحرّك ويُوجَد، كما اعترف بذلك شعراء اليونان، الّذين اقتبس عنهم بولس الرّسول في أعمال 17: 28. العبادة، إذًا، ليست فعل قهر وفرضًا تعبّديًّا وروحيًّا، بلْ إقامة علاقة بنبع الحياة والسّعادة والحرّيّة، بالله الّذي قد أعطانا كلّ شيء بغنىً للتّمتّع. ونحن في العبادة نأتي أمامه ونشكره ونعبده ونُمجّده، لأنّه وحده يَستحقّ العبادة والإكرام والسّجود.
أمّا الإنسان الّذي لا يعترف بأنّ الله قد خلقه ليُسبّحه ويعبده ويُمجّده، فيكون بذلك قد انتقل إلى تصديق الكذب وعبادة المخلوقات (الملائكة، الطّبيعة والإنسان). وهذا ما شرحه الرّسول بولس في رسالته إلى رومية: “لأنَّ غَضَبَ اللهِ مُعلنٌ من السّماءِ على جميعِ فجورِ النّاسِ وإثمِهِم، الّذينَ يَحجِزونَ الحقَّ بالإثمِ. إذْ مَعرِفَةُ اللهِ ظاهرةٌ فيهِم، لأنَّ اللهَ أظهرها لهُم، لأنَّ أمورَهُ غيرَ المنظورةِ تُرى منذُ خلقِ العالمِ مُدركةً بالمصنوعاتِ، قدرتُهُ السَّرمديّةَ ولاهوتَهُ، حتّى إنّهُم بلا عُذرٍ. لأنّهُم لمّا عرفوا اللهَ لم يُمجِّدوهُ أو يَشكُروهُ كإلهٍ، بل حمِقوا في أفكارهِم، وأظلمَ قلبُهُم الغبيُّ. وبينما هُم يَزعُمون أنّهم حُكَماءُ صاروا جُهَلاء، وأَبدَلوا مجدَ اللهِ الّذي لا يَفنَى بشِبهِ صورَةِ الإِنسانِ الّذي يَفنَى… الّذينَ استَبدَلوا حقَّ اللهِ بالكَذِبِ، واتّقوا وعَبَدوا المخلوقَ دونَ الخالِقِ، الّذي هو مُبارَكٌ إلى الأبَدِ. آمين” (رومية 1: 18-25).
إنّ العبادة هي خيار الإنسان الّذي يعرف خالقه، قال يشوع: “أمّا أنا وبَيْتي فَنَعبُدُ الرّبَّ” (يشوع 24: 15)؛ فالإنسان الّذي لا يتذمّر من وجوده تحت سلطة الله الّذي أقامه من التّراب وجعل فيه نَسمَة الحياة، يُعبِّر في العبادة عن شكره واعتماده على الله، إذ “الكُلّ بِه ولَهُ قَد خُلِق” (كولوسّي 1: 16). نقرأ في سفر الرّؤيا 5: 13: “وكُلُّ خَليقةٍ مِمّا في السّماءِ وعلى الأرضِ وتحتَ الأرضِ، وما على البَحرِ، كلُّ ما فيها، سمِعتُها قائلةً: للجالِسِ على العَرشِ ولِلخَروفِ البَرَكةُ والكَرامَةُ والمجدُ والسُّلطانُ إلى أبدِ الآبدينَ”.
ثانيًا: العمل
نقرأ في تكوين 1: 28 أنّ الله إذ خلق الإنسان باركه وأعطاه عملاً في الأرض ليُخضِعها ويتسلَّطَ عليها. ونقرأ في تكوين 2: 15: “وأخَذَ الرّبُّ الإلهُ آدمَ ووَضَعهُ في جنّةِ عدنٍ ليَعمَلها ويَحفَظها”. لقد أعطى الله آدم دورًا في الأرض وهو العمل فيها، وذلك لكي يُمجّده. بهذا يختلف الإنسان عن الكائنات الحيّة الأخرى. فهو قد خُلِق ليعمل بإرادته وليكون صاحب سلطان في عمله، فيما الحيوانات تعمل تحت سلطانه.
وهكذا تتجلّى صورة الإنسان القويّ والسّيّد والمُنتِج والحرّ، وبها يتمجّد الله. فهو لم يَخلق الإنسان ليكون كائنًا ضعيفًا اتّكاليًّا ومَهزومًا، فهذا لا يُمجّده. إلاّ أنّ الكنيسة للأسف، تتحمّل، في بعض العصور، مسؤوليّة إظهار الإنسان التّقيّ بصورة الإنسان الضّعيف وغير الفاعل الّذي يحيا مُنتظرًا الله ليُقيته. وقد برزت صورة للحياة تفصل بين الدّينيّ والعلمانيّ، ممّا جعل بعضهم يظنّ أن الحياة على الأرض تفرض على الإنسان أن ينسى الله، بينما الحياة مع الله تفرض عليه أن ينسى الأرض. وكأنّ هناك صراعًا واختلافًا بين العمليّ والدّينيّ. فإن كنّا نودّ أن نكون أتقياء وقدّيسين ومؤمنين، نمارس إيماننا بكلّ ما في الكلمة من معنى، فلن نتمكّن من الانصراف إلى الحياة العمليّة الّتي ستأخذ منّا وقتنا وجهدنا، والعكس صحيح أيضًا. ممّا يعني، أنّنا إن أردنا الانصراف إلى حياتنا المهنيّة فسنصرف النّظر عن حياة روحيّة متفوّقة.
إنّ الإنسان المسؤول والعامل الأمين والوكيل الصّالح والمُنتِج المبارَك هو الّذي يُمجّد الله. فالفكرة الأساسيّة للعمل قد تدمّرت بعد السّقوط، والله قد خلَقنا في المسيح ليُعيدنا إلى العمل “الدّنيويّ في الأرض”، وهو عمل صالح يُمجّد الله، كما جاء في رسالة أفسس: “لأنّنا نَحنُ عَمَلُه، مَخلوقينَ في المسيحِ يَسوع لأعمالٍ صالِحةٍ، قد سَبقَ الله فأعدَّها لِكَي نَسلُكَ فيها” (أفسس 2: 10). لهذا يعمل المؤمن بضمير حيّ وكأنّه يعمل لله (أفسس 6: 5- 7؛ 1بطرس 2: 18-19)، وهو يعمل بكلّ قوّة منحها له الله لكي يمجّده (مزمور 8: 3- 9 وجامعة 9: 10 و 1بطرس 2: 12؛ 4: 11).
ثالثًا: الحياة
نقرأ في تكوين 2: 7: “ونَفَخَ في أنْفِهِ نَسَمةَ حياةٍ. فصارَ آدمَ نَفْسًا حيَّةً”. إنّ الحياة الّتي منحها الله للإنسان هي ما يُمجّد الله. لو لم يأتِ الإنسان إلى الحياة لما عرف معناها ولما اختبر الله. قد يشتكي بعضهم قائلاً: لكنّنا لو لم نأتِ إلى الحياة لما اختبرنا الآلام والمصائب والأحزان والتّجارب والخطايا والضّعفات والموت! لكنْ، هل عدم المجيء إلى الحياة هو أفضل من المجيء إليها على الرّغم من هذه الأمور الّتي لا نتمنّاها؟ يجب أن نشكر الله لأجل هذه الحياة الّتي تَبقى بركة البركات، ولولاها لكنّا بقينا في تراب الأرض أو لكنّا نسكن اللاوجود والعدم والصّمت. فوحدنا في هذه الأرض، نملك حياة أبديّة نتميّز بها عن باقي الكائنات والحيوانات. وبهذا، نحنُ نشبه الله الّذي خلقنا لنكون أزليّين مثله؛ فبقاؤنا معه مضمون وأكيد كما أنّ بقاءه مضمون وأكيد. أمّا الحيوانات فتموت وتفنى وتتلاشى، لأنَّ نفسها لا تبقى إلى الأبد (جامعة 3: 11 و 19-20). الله يُعطي جميع البشر “حَياة ونَفْسًا وكلّ شَيء” (أعمال 17: 25).
هذه الحياة الإنسانيّة تُمجّد الله، لأنّها هبة مجيدة منه وقد أعطانا إيّاها من ذاته لنحيا فيها. وما يُميّز هذه الحياة أنّها تنتقل منّا إلى أولادنا، فتعجّ الدّنيا بالأولاد؛ فنُثمِر ونُكثِر ونَملأ الأرض (تكوين 1: 28)، وبهذا يُباركنا الرّبّ. إنّ المجتمع الإنسانيّ يشهد لحياة الله في البشر. ومع الأسف، منذ السّقوط والبشر يحيون وكأنّ الله غير موجود والحياة ليست حقيقيّة، ويعيشون في الموت وينتظرونه؛ وهذا، بسبب السّقوط في الخطيّة والابتعاد عن شجرة الحياة (تكوين 3: 23-24).
أمّا الإنسان الّذي ينال الحياة من جديد في الابن، فيصير له حياة تُمجّد نعمة الله (أفسس 1: 6 و12)، وتصبح حياته حقيقيّة مع الله ويحلّ فيه المسيح، ويُحرَّر من سلطان الموت، ممّا يجعله يسلك باهتمام روحيّ “لأنَّ اهتِمامَ الجَسَد هوَ مَوتٌ، ولكنَّ اهتِمامَ الرّوحِ هو حَياةٌ وسَلامٌ” (رومية 8: 2 و6). وبفضل روح المسيح يعود الخاطئ المائت للحياة، ويسلك في الحياة الرّوحيّة الجديدة الّتي تُميت أعمال الجسد، فيحيا بقيادة الرّوح القدس كابن لله لكي يتمجّد أيضًا معه (رومية 8: 12-17). بهذا يتمجّد الله، في حياتنا الّتي في المسيح. وهذا كان هدف الله الأساسيّ من خلقنا.
إنّ السّؤال “لماذا خلقنا الله؟” لم يعد يُربِكنا، لأنّنا صرنا نعرف الإجابة عنه. أعترف بأنّي لم أجد الكثير من كتب اللاّهوت الّتي تُعالج هذا السّؤال، لكنّ الكتاب المقدّس لم يتركنا من دون جواب. وإذ قد عرفنا الجواب، دعونا نُمجّد الله في أرواحنا وأجسادنا الّتي هي لله خالقنا وفادينا (1 كورنثوس 6: 19-20). فالزّمان الحاضر سيمرّ مع آلامه الّتي لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا (رومية 8: 18). ولأنّه قد خَلَقَنا وبرَّرَنا وفَدانا وأتى بنا إلى الحياة لكي يُمجّدنا (رومية 8: 30)، دعونا نُمجّده في حياتنا وفي مماتنا كما سنفعل بعد لقائنا به، وإلى الأبد.