يعترض مُعظم المسيحييّن في بلادنا على اقامة عيدَي الشعانين والفصح مرتين. ويأخذ الاعتراض طابعًا وجوديًّا ومأسويًّا عندما يُسأل: أويعُقل أن يُصلَب المسيح مرتين، ويُجنّز مرتين، ويقوم مرتين؟ يعتبر النّاس أنّ افتراق هذين العيدين ليس سوى تعبير صارخ عن انقسام الكنائس وتباعدها.
شاهدتُ حلقة تلفزيونيّة خلال فترة العيد الغربي طرحت فيها المـُضيفة على ضيوفها رأيهم بالتقويمين. وجاءت الاجابات مشحونة بعواطف صادقة ومواقف مستنكرة توحي وكأنّ وجود عيدين هو مشكلة كبيرة إن تمّ حلّها حلّ ملكوت الله بين البشر ومعه السلام والمحبة والبركة. أمّا واقع الحال فهو أنّه في كل مرّة تُناقش هذه المسألة يُحبَط السامع، أو يخرج متأهّبًا متقاتلاً مع صاحب الرأي الآخر.
أصل المشكلة
هل من مشكلة حقّاً؟ وهل يصلب المسيحيّون المسيح مرتين؟ يجد من يدرس خلفيّات وجود توقيتين للعيد أن كلا الفريقين على حقّ بحسب التقويم الذي يتمسّك به. فالشرقيّون ما زالوا يعتمدون التقويم اليولياني للسنة الذي وضعه يوليوس قيصر في العام 45 ق. م. ولم تعرف قبله الرزنامة الاستقرار في عدد الأشهر وأيّامها. ومعه صارت السنة حوالي 365 يومًا وتتوافق بشكل كبير مع الفصول الأربعة للطبيعة. وفي العام 1582 أجرى البابا غريغوريوس الثالث عشر تعديلاً على التقويم اليولياني عُرِف باسمه فيما بعد. وهدف بذلك إلى تقليص عدد الأيام الكبيس المتراكمة محاولاً في الوقت عينه الحفاظ على موعد ثابت لعيد الفصح يقع في الأحد الأول الذي يلي الاعتدال الربيعي وظهور القمر الكامل في 21 أذار من كلّ عام وذلك بحسب ما اتُفِقَ عليه في مجمع نيقيا في العام 325 م.
رفضت البلدان البروتستانتيّة والأورثوذكسيّة بداية هذا التعديل الذي عاد وسرى مفعوله تدريجيًّا. وأصبح التقويم الغريغوري أساس السنة المدنيّة والتعامل التجاري في العالم أجمع. واستمرت الكنائس الشرقية في اعتماد التقويم اليولياني في السنة الطقسيّة. ويبقى السؤال: أي التقويمين نعتمد للعيد الكبير؟ سأترك المناقشات المعقدّة حول احتساب العام وأشهره وأيّامه وساعاته ودقائقه وثوانيه للمهتمّين بهذه التفاصيل التقنيّة المـُعقّدة. وأظن أن الأهم هنا هو أن نعي القواعد الأساسيّة التي تُبنى عليها الحياة الروحيّة والأعياد المقدسة.
القواعد الأساسيّة للأعياد
أولاً: الروحانيّة المسيحيّة الأساسيّة لا تحكمها رزنامة. بالرغم من أن الكنيسة تحفظ مناسبات مُحدّدة خلال العام تتذكّر فيها بعض المحطات الإنجيليّة، فإن الوحي المقدّس واضح في تعليمه إذ يقول: “فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ” (كو 2: 16). بهذا أوصى بولس المؤمنين ليُبقوا أنفسهم أحرارًا من الشكليّات الطقسيّة اليهوديّة يومها. فهذه تأسر الروح وتمنعها عن التحليق في فضاء السماويّات الرحب.
ثانيًا: الحالة الداخلية للمؤمن هي الأهم. شدّد الرسول بولس في معرض تعليمه عن عيد الفصح على أن يسعى المؤمن إلى عيش القداسة الفعليّة ليكون مؤهلاً للاحتفال بالعيد المقدّس. “إِذًا لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ” (1كو 5: 8). وبحسب هذه القاعدة لا تتفوّق الرزنامة، أيًّا كانت، على حالة النقاوة الداخليّة لدى المحتفلين بذكرى صلب المسيح من أجل خطاياهم وقيامته لتبريرهم. فعندما يتقدّس المؤمن يختبر قوّة العيد وفرحته في آن. ومن دون هذه الحالة السامية لا يوجد عيد في أيّ تقويم كان.
ثالثًا: العيد هو تذكاري. وماذا نُجيب السائل عن تكرار مراسيم الصلب والجناز والقيامة مرتين؟ وأردّ على السؤال بسؤال: وهل نحن حقًّا “نقتل” أو “نصلب” المسيح على أيّ حال؟ هناك من يظنّ ذلك. ينسى العابد في ظلّ المشهديّة المكثّفة في مراسيم الفصح أنّها فعل رمزي يُعيد الذاكرة إلى ما حصل فعلاً في أسبوع الآلام، فيما المسيح تمّم الفداء وقام من الأموات وهو حيّ الآن يجلس على عرشه في الأعالي، وأنّه لا إمكان لصلبه ثانيةً بأيّ شكلٍ من الأشكال (عب 9: 12، 26، 28). والمسيح قد أوصى الكنيسة أن تُقيم العشاء الربّاني لتتذكّر ما فعله على الصليب لأجلها. فهل تقوم الكنائس عبر الفريضة المباركة بقتل المسيح مرارًا وتكرارًا أم تستحييِ الذكرى كما هو أوصى: “اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْري” (لو 22: 19). وكما إن الأمر تذكاريّ في المناولة المقدسة، كذلك هو في عيد الفصح. فليتكرّر، ولما لا؟ تزداد الحاجة لاعادة التذكير والانسان ينسى في خضمّ صخب حياته ما فعله المسيح من أجله فيزداد فتورًا وبرودة وابتعادًا عن فاديه ومخلّصه.
رابعًا: الحريّة الكنسيّة والفرديّة مُقدّسة في المسيحيّة. عانت الكنائس منذ البداية من تصلّب بعض الأشخاص والمجموعات الّذين تمسّكوا بيوم السبت للعبادة بحسب الوصايا العشرة في مقابل تمسّك غيرهم بيوم الأحد الّذي أسّسه المسيح. وتفاقم الوضع بين الفريقين حتّى تحّول مادّة خلافيّة. فكتب الرسول بولس ليحثّ الجميع على احترام الحريّة والتنوّع اللذين لم يشكّلا بنظره انقسامًا وفرقة. وما كتبه يومها حول يوم العبادة الأسبوعيّ ينطبق على يوم الفصح السنويّ، ومن الجيد التذكير به: “وَاحِدٌ يَعْتَبِرُ يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ وَآخَرُ يَعْتَبِرُ كُلَّ يَوْمٍ. فَلْيَتَيَقَّنْ كُلُّ وَاحِدٍ فِي عَقْلِهِ: الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ يَهْتَمُّ وَالَّذِي لاَ يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ لاَ يَهْتَمُّ.” (رو 14: 5-6). وبالفعل لا يُمكن إدانة نوايا أيّ من الفريقين بأي سوء في اعتمادهم كل منهما لتقويم دون الآخر في ما يختص بعيد الفصح المجيد. خامسًا: الحياة المسيحيّة هي حياة يوميّة. صحيح أن الأعياد تؤدّي دورًا كبيرًا في تنشيط الحياة الروحيّة الفرديّة والكنسيّة إلاّ أن المسيحيّين مدعوّون ليعيشوا يوميًّا للمسيح. وهنا أسأل المنزعجين من وجود يومين للفصح المجيد، هل أنهيتم الصراع مع الخطايا الشخصيّة وهل أتممتم الدين النقيّ الطاهر من نحو الاهتمام بالأرامل والأيتام ومسالمة الآخرين حتّى لم يبقَ أمامكم سوى توحيد العيدين؟ كانت المسيحيّة الأولى “ديانة كلّ يوم” لا ديانة موسم أو اسبوع واحد في السنة. “وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ وَفِي الْبُيُوتِ مُعَلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (أع 5: 24). والاقبال الشديد على حضور المراسيم الكنسيّة في الأعياد جميل، لكنّه سرعان ما “يتبخّر” إذ تعود أعداد كبيرة من المشاركين لتعيش حياتها على هواها.
وهنا أعود للسؤال: وهل يُعقَل أن يُصلب المسيح مرتين؟ لا يجوز أن نصلبه مرتين ولا ثلاثة ولا أكثر. فنحن في كلّ خطيّة نرتكبها ندقّ مسمارًا إضافيًّا في جسده، وخطايانا هي سبب صلبه في الأساس. من يتأمّل في مسيرة الآم المسيح وما فعله من أجل البشريّة لحمَلَ صليبه وتبع المسيح في طريقه المقدسة. كتب بطرس الرسول رابطًا بين الآم المسيح وقداسة الحياة وقال: “فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ، لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضًا الزَّمَانَ الْبَاقِيَ فِي الْجَسَدِ لِشَهَوَاتِ النَّاسِ، بَلْ لإِرَادَةِ اللهِ” (1بط 4: 1-2)