ثَقُلَتْ خُطى الشَّمس بشدّة عندَ ذاك المغيب، فأَخْضَبَتْ نيرانُ القَذائف والصَّواريخ سماءَ لبنان، بألوانٍ قرمُزيةٍ وبُرتقاليّة، وانهارتِ المباني واحدًا تلوَ الآخر، كَأحجارِ الدّومينو. كانتْ منال (إسم مستعار) واقفةً عند الشُّرفة حين ألقَى بها دَويُّ تلك الغارةِ الجويّة العنيفة أرضًا. تسارعَتْ دقّاتُ قلبها، وافترسَها الخوف الشّديد، حتّى أُنْهِكَتْ قِواها تمامًا. بدأتْ تَجول في البيت بِعينَيْها، مُلتَهمةً كلَّ زاويةٍ من زَواياه، بعد أن تيقَّنَتْ أنّ ساعةَ الرّحيل قد حضرَتْ، وراحَتْ تُلَملم الأشياء الّتي تَطايرَتْ من عَصف القذائف بعيونٍ دامعة.
حملَتْ بين يدَيْها صورةَ المدَلّلة ميرا (إسم مستعار) الّتي رُزقَتْ بها بعد خمسة أعوام من الزّواج، وصورةَ “برهوم” (إسم مستعار) وهو يَخْطو أُولى خُطُواته. أمّا صورتُها في يوم زفافها، فلَمْ يُصِبْها أيُّ أذىً، وتكاد تنطِق بزغاريد جَدَّتها الّتي لم تجدْ لَها منافسًا على “ال إيه ويها”. ثمّ نزلَتْ إلى الطّابق السُّفليّ الّذي يَروي تاريخَ عائلة تميّزَت بالنّزاهة والعَطاء، فتزاحَمَتْ في مُخَيّلتها ذكرياتُ أَعوام انْصرمَتْ، وتساءلتْ في نفسها: كيف لِحَقيبةٍ أن تَسَعَ حياةً كاملة؟
وبِيدَيْن مُرْتَجفتيْن، جمعَتْ منال في حقيبةٍ صغيرةٍ بعض الحاجاتِ الأساسيّة لها ولعائلتِها، من دونَ أن تَنسى القِلادةَ الّتي أَهدَتْها إيّاها والدتها يومَ تَخرُّجها. وبعدَ عدّة خُطُوات نحو الباب الخارجيّ، مزّقَتْ صَمْتَ فؤادِها صَرخاتُ النّساءِ الّتي عَلَتْ من داخل المبنى وجِواره. نِساءٌ مفجوعات فوق أشلاءِ رجالهنَّ، ورِجال يَكتُمونَ حُزنَهم وقلّة حيلتِهم تحت أقنعة العُنفوان والكبرياء وعِزَّة النَّفْس. والآن، ماذا بَعد، الهُروب أمِ الصُّمود؟ بالنّسبة إلى عائلة منال، كان الهروبُ هو القرارُ الحَتْمِيّ، ولكنْ ليس قبلَ إلقاءِ النَّظرةِ الأخيرة على أحياءَ هزّتْ أركانَها صيحاتُ الأطفال، وشوارعَ كانتْ تَضِجُّ بالباعة والمتسوّقين، ومَبانٍ انهارتْ بما تَكنزُهُ بِداخلِها مِن حكايات رُوِيَتْ معْ فنجانِ قهوة، وأسرارٍ هُمِسَ بها على وسادةٍ دافئة.
سارتِ العائلة في موكبِ النّازحين، وفي جعبتِها مشاهدُ أليمةٌ تَهيضُ لها المشاعر. “إلى أين نحن ذاهبون يا ماما؟” سألَ برهوم، فأجابَتْ أمُّه:”أتذكُرْ حينَ قُلتَ لي مرَّةً أنّكَ تحبُّ أنْ تَعُدَّ نُجومَ السّماء؟ ها نحن ذاهبون لِنَعُدَّها مَعًا.” أخيرًا، وبعدَ ساعاتٍ طويلةٍ مِنَ السَّيْرِ على الأقدامِ، وَجَدَتِ العائلةُ مساحةً صغيرةً لِتَستلقيَ بالقربِ من عشراتِ العائلاتِ الّتي افترَشَتِ الأرضَ بما تيسّر لها، حيثُ بدأ برهوم بِعَدﱢ النّجوم ليلةً تِلوَ الأخرى.
ومعَ استمرارِ القَصْفِ العنيف، بدأ الأمَلُ بالعودةِ إلى المنزل يَخبو تدريجيًّا، إلى أنْ أُخبرَ أفرادُ العائلة أنَّ منزلَهُم صارَ رُكامًا، والدّخانَ الكثيفَ يَتَصاعدُ من كلﱢ أرجاءِ المدينة، بهيئةِ أشباحٍ تَتَمايلُ راقصةً فوق الرَّدْمِ والدَّمار.
بعدَ تلقّيها هذا الخبرَ المؤلم، بدأت الهمومُ تعبثُ بفكرِ منال، فالماضي تلاشَت ذكرياتهُ ولم يبقَ منها سوى بقايا مطويّةٍ في حقيبة؛ وآمالُ الحاضر الممتَدّة تختصرُها خيمةٌ صغيرةٌ على قارعةِ الطّريق؛ وأمّا المستقبل، وأيُّ مستقبلٍ هو؟! فكيف لها أنْ تعيرَهُ اهتمامًا وهي في غَمرةٍ من الاغترابِ النَّفسيّ المرير؟ لقد أمضت منال ليلةً كاملةً وهي تُناجي اللهَ بحرقةٍ عميقةٍ وعِتابٍ شديد وتسأل “أين أنت يا ربّ”، إذ ليس هناك ما هو أشدُّ إيلامًا من التّواجد في العراءِ أو في خيامٍ على أرضِ وطنٍ مطعونٍ في الخاصرة، يترنّحُ بلا اتّجاهٍ أو قرار.
يُقال إنّه لا يشعرُ بمعاناتك إلاّ مَن مَرَّ بتجربةٍ مماثلة لتجربتِك. وفي هذا السّياق، يروي لنا الكتاب المقدّس في إنجيلِ متى عن نزوحٍ قَسريّ للعائلة المقدّسة: يوسف، ومريم العذراء والطّفل يسوع، التي تركَت بيتَ لحم ليلاً بعد أن اشتدّ الخطر، ولجأتْ إلى مصر هربًا من بطشِ هيرودسَ الملك الّذي أمرَ بذبحِ كلّ طفلٍ ما دون السّنتيْن، خشيةَ أن ينتزعَ منه يسوع المسيح عرشَه ومُلكه (متى 2: 16). وبقيَت العائلة متغرّبة في أرضِ مصرَ إلى إن ماتَ هيرودس، حينئذٍ رجعوا إلى ديارهم. كما نقرأ أيضًا في سفرِ أعمال الرّسل عن اضطهادٍ شديد تعرّضَتْ له الكنيسة على يد شاول الطرسوسي ممّا أدّى إلى تشتّتِ المؤمنين بالربّ يسوع في أماكنَ مختلفة، غير أنّ الرّبَّ كان مصدرَ تعزيتِهم وقوّتهم وثباتهم، فواصلوا مَسيرتَهم الإيمانيّة متسلّحين بكلمة الله بكلّ عَزمٍ وإخلاص.
ها نحن نخطو خطواتِنا عبرَ تحدّيات الحياة، حيث يمضي العمرُ مسرعًا من دون أن نشعر، ولا نعلمُ متى ستُجمع الحقائب. لكنّنا نعلمُ يقينًا، سواء حدثَ ذلك طوعًا أو قسرًا، أنّ الإنسانَ عزيزٌ في عينيّ الرّبّ، الإله العظيم الّذي يقفُ إلى جانب كلّ متألّمٍ وحزين ومجروح، لا بدّ أن ندركَ أنّ هناك إلهًا محبًّا حنّانًا طيّبًا رحومًا يدعونا إليه، ويتوقُ إلى أن يملأنا بالمحبّةِ والسّلام والرّحمة. وربّما لا يكونُ السّؤال الأكثر أهميّة “أين أنتَ يا ربّ؟”، بل “أين أنا منك يا ربّ؟ وكيف أستطيع أن أُرضيك حيثما وُجِدتُ؟”